أول من اكتشف كروية الأرض
لطالما كانت مسألة شكل الأرض محط اهتمام البشر منذ العصور القديمة، حيث حاول العديد من المفكرين والعلماء تفسير وتقديم إجابات حول طبيعة هذا الكوكب الذي نعيش عليه. وبالرغم من أن فكرة كروية الأرض أصبحت الآن من الحقائق العلمية المسلَّم بها، إلا أن اكتشاف ذلك لم يكن عملية فورية أو سهلة، بل كان نتيجة لتراكمات علمية وثقافية على مر العصور. في هذا المقال، سنتناول تاريخ اكتشاف كروية الأرض، مع التركيز على الشخصيات والمراحل التي ساهمت في تشكيل هذا الفهم العلمي.
الفكر القديم وأسطورة الأرض المسطحة
قبل أن يتم إثبات كروية الأرض، كان الاعتقاد السائد لدى معظم الشعوب القديمة هو أن الأرض مسطحة. هذا الاعتقاد كان أساسًا نابعًا من التجربة اليومية للبشر وملاحظاتهم للأفق والسماء، حيث كانوا يرون الأرض تظهر وكأنها مسطحة وممتدة بلا حدود. كما أن الأساطير والخرافات التي كانت تنتشر في تلك الفترات كانت تدعم هذا المفهوم، حيث كان العديد من الثقافات القديمة تصوِّر الأرض ككائن مسطح موضوع فوق ظهر حيوانات ضخمة أو حتى على شكل قرص محاط بالمحيطات.
أول من اقترح كروية الأرض: الفلاسفة الإغريق
تُعتبر الفلسفة اليونانية القديمة واحدة من أعظم المصادر التي أسهمت في تحويل مفهوم الأرض من المسطح إلى الكروي. كان هناك العديد من الفلاسفة الذين طرحوا فكرة كروية الأرض بناءً على مشاهدات عقلية وتجريبية. من بين هؤلاء الفلاسفة، كان الفيلسوف اليوناني بارمينيدس (حوالي 500 قبل الميلاد) أحد أول من أشار إلى إمكانية أن تكون الأرض كروية، رغم أنه لم يقدم دليلًا قاطعًا على ذلك.
فيثاغورس وأفكار الفلك
الفيلسوف والرياضي اليوناني فيثاغورس (حوالي 570–495 قبل الميلاد) هو أول من اقترح بشكل واضح أن الأرض كروية، وذلك استنادًا إلى أفكاره الفلكية والرياضية. بالرغم من أن فيثاغورس لم يقدم دليلًا عمليًا على كروية الأرض، إلا أن اقتراحه كان نقطة تحول مهمة في الفكر القديم. كان فيثاغورس يؤمن بأن الكون منظم بشكل رياضي وأن الشكل الكروي هو الأكثر اكتمالًا وتنظيمًا في الطبيعة.
أرسطو والشواهد العلمية
يُعتبر الفيلسوف أرسطو (384–322 قبل الميلاد) من أبرز الشخصيات التي قدمت دلائل علمية على كروية الأرض. في كتابه “السماء” (On the Heavens)، قدم أرسطو مجموعة من الأدلة التي تشير إلى أن الأرض كروية. من أبرز هذه الأدلة:
-
الظلال الدائرية: لاحظ أرسطو أن الظلال التي تُلقى من الأرض على القمر أثناء الكسوف القمري تكون دائرية، وهذا يشير إلى أن الأرض كروية.
-
تغيرات الأفق: عندما يسافر الناس إلى أماكن بعيدة، يلاحظون أن السفن تختفي تدريجيًا عن الأنظار من الأسفل إلى الأعلى، مما يدل على انحناء سطح الأرض.
-
تغيرات النجوم: لاحظ أرسطو أيضًا أن النجوم التي تظهر في السماء تختلف حسب موقع الشخص على الأرض. ففي المناطق الجنوبية تظهر نجوم لا يمكن رؤيتها في الشمال، مما يدل على أن الأرض كرة وليست مسطحة.
إراتوستينس وقياس محيط الأرض
من أشهر الشخصيات التي أثبتت كروية الأرض بشكل عملي، هو عالم الفلك والجغرافيا إراتوستينس (276–194 قبل الميلاد). إراتوستينس كان عالمًا في مكتبة الإسكندرية، وقد قام بأول قياس دقيق لمحيط الأرض باستخدام الظلال. لقد لاحظ أن في مدينة سيين (التي هي الآن أسوان في مصر) كانت الشمس في الزوال تمامًا عند الظهيرة في يوم الانقلاب الصيفي، بينما في الإسكندرية كان هناك زاوية صغيرة للظل.
باستخدام هذه الملاحظة، قام إراتوستينس بقياس المسافة بين المدينتين باستخدام الحسابات الرياضية البسيطة، فاستنتج أن محيط الأرض يبلغ حوالي 39,375 كيلومترًا، وهو تقدير قريب جدًا للقيمة الحديثة التي تبلغ حوالي 40,075 كيلومترًا. وبذلك، قدم إراتوستينس أول دليل تجريبي كبير على كروية الأرض.
القرون الوسطى وفكرة الأرض المسطحة
مع دخول أوروبا في العصور الوسطى، تراجع الاهتمام العلمي بالأفكار اليونانية حول كروية الأرض بسبب هيمنة الكنيسة المسيحية التي كانت تروج لفكرة الأرض المسطحة، بناءً على تفسيرات دينية. كانت الكنيسة تدعم الاعتقاد بأن الأرض هي مركز الكون وأن كل شيء يدور حولها، وهو ما يُعرف بنموذج “الكون الجيومركي”. وبذلك، تراجع الفكر العلمي حول شكل الأرض لبعض الوقت.
عصر النهضة والإحياء العلمي
في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، مع بداية عصر النهضة في أوروبا، بدأ العلماء الأوروبيون في العودة إلى الدراسات العلمية القديمة، بما في ذلك أفكار الفلاسفة اليونانيين حول كروية الأرض. أحد أبرز المفكرين في هذا السياق كان كريستوفر كولومبوس (1451–1506)، الذي استند إلى الفهم الكروي للأرض عندما قرر الإبحار غربًا للوصول إلى آسيا.
فرديناند ماجلان والإثبات العملي
في القرن السادس عشر، تمكن الرحَّالة البرتغالي فرديناند ماجلان من القيام برحلة تاريخية حول العالم، حيث أكمل أول دورة كاملة حول الأرض بين عامي 1519 و1522. وقد أسهمت هذه الرحلة بشكل كبير في تأكيد أن الأرض كروية، إذ استطاع ماجلان وفريقه العودة إلى نقطة انطلاقهم بعد الإبحار في اتجاه واحد دون أن ينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في نهاية سطح مسطح كما كان يعتقد البعض.
خلاصة
منذ العصور القديمة، كانت فكرة كروية الأرض موضوعًا للبحث والتفكير الفلسفي، مرورًا بالتطورات العلمية التي قدمها الفلاسفة اليونانيون مثل فيثاغورس وأرسطو، وصولاً إلى القياسات الدقيقة التي أجراها إراتوستينس والتي أثبتت بالفعل كروية الأرض. كما أن الرحلات الاستكشافية في العصور الوسطى وعصر النهضة ساهمت في تعزيز هذا الفهم. ومن ثم، فإن اكتشاف كروية الأرض لم يكن محصورًا في شخص واحد أو لحظة واحدة، بل كان نتاجًا لتراكم علمي طويل عبر العصور.
