اضطراب الشخصية الانهزامية، المعروف أيضاً في الأدبيات النفسية باسم اضطراب الشخصية المازوخية، هو أحد أنماط الاضطرابات النفسية التي تؤثر على طريقة تفكير الفرد وسلوكياته وعلاقاته الاجتماعية. يتميز هذا الاضطراب بنزعة مستمرة لدى الشخص نحو إيذاء الذات نفسياً من خلال البقاء في علاقات مؤذية، رفض المساعدة أو النجاح، وتعمد الوقوع في الفشل والمعاناة. على الرغم من أن هذا الاضطراب لا يندرج حالياً ضمن التصنيف الرسمي للاضطرابات النفسية في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، إلا أن علماء النفس والباحثين ما زالوا يدرسون آثاره وخصائصه بشكل واسع، نظراً لتأثيره العميق على نوعية حياة المصابين به.
المفهوم النفسي لاضطراب الشخصية الانهزامية
يتسم الفرد المصاب باضطراب الشخصية الانهزامية بنمط دائم من السلوكيات التي تقود إلى الإذلال الذاتي، والقبول الضمني أو الصريح بالإيذاء النفسي أو الجسدي من الآخرين، والاعتماد على الشعور بالمعاناة كجزء أساسي من هويته الشخصية. غالباً ما يسعى هذا الشخص إلى علاقات تحتوي على مواقف مهينة أو مؤلمة، سواء عاطفياً أو نفسياً، ويرفض بشكل متكرر الفرص التي يمكن أن تؤدي إلى تحسين حياته أو تقليل معاناته.
الخصائص الأساسية للشخصية الانهزامية
يعرض المصابون باضطراب الشخصية الانهزامية مجموعة من السمات والسلوكيات النفسية المميزة، والتي تتضمن:
-
تفضيل المعاناة: الميل إلى التعلق بالألم والمعاناة باعتبارها طريقة للتكفير أو كوسيلة للإحساس بالرضا الذاتي.
-
رفض المساعدة: غالباً ما يرفض المصاب عروض الدعم أو الحلول الفعالة التي قد تنقله إلى حالة أفضل.
-
البقاء في علاقات سامة: التعلق بعلاقات مسيئة والعودة إلى شركاء أو أفراد يسببون الأذى العاطفي أو الجسدي.
-
إفساد فرص النجاح: عندما يقترب من النجاح أو التحسن، يعمد إلى تخريب تلك الفرص عن قصد أو دون وعي.
-
اللوم الذاتي المستمر: تحميل الذات المسؤولية عن الأخطاء والفشل، حتى وإن لم يكن هو السبب الحقيقي.
-
الخوف من الاستقلالية: الشعور بعدم الاستحقاق أو الذنب عند تحقيق الاستقلال أو السعادة.
الأسباب المحتملة للاضطراب
مثل العديد من اضطرابات الشخصية، فإن اضطراب الشخصية الانهزامية غالباً ما ينشأ نتيجة تفاعل معقد بين العوامل الوراثية والنفسية والبيئية. من بين الأسباب الأكثر شيوعاً:
-
الطفولة المؤلمة: تجارب الطفولة المرتبطة بالإهمال العاطفي، أو القسوة الجسدية أو النفسية، يمكن أن تترك بصمات عميقة تؤدي إلى تبني أنماط معاناة مزمنة.
-
نموذج الوالدين: قد ينشأ الطفل في بيئة يكون فيها أحد الوالدين أو كلاهما يعانيان من سلوكيات مشابهة أو يعززان الإذلال والاعتمادية.
-
اضطرابات الاكتئاب أو القلق: بعض الحالات تتطور من حالات اكتئابية مزمنة، حيث يعتاد الفرد على الألم بوصفه جزءاً طبيعياً من الحياة.
-
التعزيز السلبي: إذا كان الشخص قد حصل على نوع من القبول أو الحب نتيجة معاناته، فقد يربط بين الألم والانتماء.
التشخيص والتقييم
لا يُدرج اضطراب الشخصية الانهزامية حالياً كتشخيص مستقل في الدليل التشخيصي DSM-5، غير أن الأطباء النفسيين قد يلاحظون هذا النمط السلوكي لدى المرضى الذين يعانون من اضطرابات شخصية أخرى، مثل اضطراب الشخصية الاعتمادية أو الحدية. يعتمد التشخيص على مقابلات سريرية معمقة وتحليل السلوكيات على مدى فترة زمنية طويلة، كما يجب أن يتضمن التقييم استبعاد وجود اضطرابات نفسية أخرى تؤدي إلى أنماط مماثلة.
العلاقة مع الاضطرابات النفسية الأخرى
يعد اضطراب الشخصية الانهزامية قريباً في خصائصه من عدد من الاضطرابات النفسية الأخرى، خاصة:
-
اضطراب الشخصية الاعتمادية: حيث يكون الشخص غير قادر على اتخاذ القرارات أو الاستقلال دون الاعتماد على الآخرين.
-
اضطراب الاكتئاب المزمن (عسر المزاج): حيث يغلب على الشخص مزاج كئيب طويل الأمد.
-
اضطراب الشخصية الحدية: يتمثل في تقلبات عاطفية شديدة وسلوكيات مدمرة للذات.
-
اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD): خاصة في حالات الصدمات المعقدة، يمكن أن يطور الفرد أنماطاً من التعلق بالمعاناة.
تأثير الاضطراب على الحياة اليومية
يمتد تأثير اضطراب الشخصية الانهزامية إلى كافة نواحي حياة المصاب، بما في ذلك:
-
العلاقات الشخصية: تتسم غالباً بالصراعات أو الخضوع المطلق أو التعلق المرضي.
-
الحياة المهنية: قد يتجنب الشخص الترقي أو الإنجاز المهني، أو يعمد إلى تدمير فرص النجاح.
-
الصحة النفسية: يزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب المزمن، ومحاولات إيذاء الذات، والانتحار في بعض الحالات.
-
الاستقلالية: يصعب على الشخص الانفصال عن علاقات مؤذية، أو اتخاذ قرارات تؤدي إلى تحسين حياته.
استراتيجيات العلاج
رغم التحديات التي يفرضها اضطراب الشخصية الانهزامية، إلا أن هناك عدة استراتيجيات علاجية ثبتت فعاليتها، خصوصاً إذا تم التعرف على الاضطراب مبكراً وتم إشراك المصاب بشكل نشط في العملية العلاجية. من بين أهم هذه الطرق:
-
العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يهدف إلى تعديل الأفكار السلبية المتجذرة في النفس وتغيير أنماط السلوك الانهزامية.
-
**
