استقبال العام الهجري الجديد

استقبال العام الهجري الجديد

يُعدّ العام الهجري الجديد محطة سنوية بالغة الأهمية في حياة المسلمين، فهو ليس مجرد انتقال زمني من سنة إلى أخرى، بل هو فرصة متجددة للمراجعة والتقويم والتخطيط، تُمثّل انعكاسًا لمعانٍ إيمانية وروحية وتاريخية عميقة. ومن هذا المنطلق، فإن كيفية استقبال المسلم للعام الهجري الجديد ليست مسألة شكلية أو طقسية، وإنما تعبير عن وعي حضاري وإدراك ديني بأهمية الزمن وقيمة العمر في المنظور الإسلامي.

العام الهجري يرتبط بأعظم حدث في التاريخ الإسلامي، وهو هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، والتي كانت بداية مرحلة جديدة من بناء الدولة الإسلامية وترسيخ دعائمها. هذه الهجرة لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل مثّلت انطلاقة نحو بناء مجتمع قائم على الإيمان والتوحيد والعدل والشورى. ولذلك فإن حلول العام الهجري هو تذكير سنوي بهذه اللحظة المفصلية، وفرصة لاستلهام معاني التضحية والبذل والثبات على الحق.

أولاً: التأمل في معاني الهجرة

الهجرة ليست حدثاً تاريخيًا عابراً، وإنما هي مدرسة متكاملة في الإخلاص والصبر والتوكل والعمل، فقد ترك النبي وأصحابه أرضهم وأموالهم وديارهم في سبيل الله. وعليه، فإن استقبال العام الهجري الجديد ينبغي أن يكون باستحضار هذه المعاني ومقارنتها بواقعنا، لنسأل أنفسنا عن مدى استعدادنا للتضحية من أجل مبادئنا، وعن مقدار التزامنا بمنهج الإسلام في سلوكنا اليومي.

إن من أهم الدروس التي تُستقى من الهجرة النبوية:

• التخطيط المسبق: فقد وضع النبي خطة دقيقة للهجرة رغم أنها كانت في وقت شديد الخطورة، ما يدل على أهمية ترتيب الأولويات والتخطيط السليم.

• الاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب: إذ توكّل النبي على الله، ولكنه لم يترك الأسباب، بل رتب طريق الهجرة، واختار الرفيق والدليل.

• الثبات على المبادئ: رغم العروض المغرية من قريش، أصرّ النبي على رسالته، مما يُعلّم المسلمين عدم التنازل عن ثوابتهم.

ثانياً: التوبة وتجديد العهد مع الله

من أهم ما يُستقبل به العام الهجري الجديد هو تجديد التوبة والعودة الصادقة إلى الله، فمرور عام يعني نقصاناً من العمر، وكل لحظة تمر هي إما رصيد يُضاف في ميزان الحسنات أو عبء يُثقل كاهل السيئات. ولذا فإن بداية العام الجديد يجب أن تكون وقفة صادقة مع النفس لمراجعة ما فات، وتصحيح المسار.

قال الله تعالى:

﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]

ويُسنّ للمسلم أن يُكثر من الدعاء والاستغفار، وأن يعاهد الله على التزام الطاعات واجتناب المحرمات، وأن يجعل من هذا العام عامًا للترقي في درجات الإيمان والعمل الصالح.

ثالثاً: محاسبة النفس ومراجعة الإنجازات

قال الحسن البصري: “رحم الله امرأً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر”.

استقبال العام الهجري بوعي يبدأ بـمحاسبة النفس: ماذا أنجزت في العام الماضي؟ ما الذي قصرت فيه؟ هل حافظت على صلاتي؟ هل بررت والديّ؟ هل أديت الزكاة؟ هل التزمت بصدق في عملي؟

محاسبة النفس بهذه الطريقة تفتح باب الإصلاح الذاتي وتؤسس لمسار جديد من التغيير.

يمكن للمسلم أن يضع جدولاً سنويًا لمتابعة عباداته وأعماله كما في المثال التالي:

رابعاً: تعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية

استقبال العام الهجري ينبغي أن لا يقتصر على العمل الفردي، بل يجب أن يمتد إلى الأسرة والمجتمع. إذ يُمكن تحويل هذه المناسبة إلى فرصة لترسيخ قيم الإخاء والمحبة داخل الأسرة، وتشجيع أفرادها على فتح صفحة جديدة من التفاهم والحوار.

من المستحسن أن يُعقد اجتماع عائلي في بداية العام لتحديد أهداف مشتركة، مثل:

• تخصيص يوم أسبوعي للعبادة الجماعية.

• تنظيم حملة أسرية للتبرع.

• حفظ سور من القرآن الكريم بشكل جماعي.

• تحديد برنامج ثقافي أو تعليمي شهري للعائلة.

خامساً: اغتنام فضل الأشهر الحرم

يبدأ العام الهجري بشهر محرم، وهو من الأشهر الحرم التي خصها الله تعالى بالتعظيم والفضل، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ:

“أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم” [رواه مسلم].

وفي هذا الشهر يأتي يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من محرم، الذي صامه النبي ﷺ وأمر بصيامه، لما له من فضل عظيم في تكفير ذنوب سنة مضت.

قال النبي ﷺ:

“صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله” [رواه مسلم].

إذن، فإن من الأعمال المستحبة في بداية العام:

• الإكثار من الصيام في شهر الله المحرم.

• الإحسان إلى الناس وصلة الأرحام.

• الإكثار من الذكر وقراءة القرآن.

سادساً: تحديد أهداف جديدة للسنة

كما يضع الناس أهدافًا مادية أو مهنية في بداية كل عام، فإن المسلم مطالب بتحديد أهداف إيمانية وأخلاقية يجتهد لتحقيقها خلال العام الجديد، لأن العمر فرصة لا تتكرر.

وهذه بعض الأهداف التي يمكن للمسلم أن يخطط لها:

• ختم القرآن الكريم مرتين أو أكثر.

• تعلم علم شرعي جديد: مثل حضور دورة في العقيدة أو السيرة أو الفقه.

• الالتزام بصلاة الفجر في المسجد.

• التحكم في الغضب وتربية النفس على الحلم والرحمة.

• المساهمة في عمل تطوعي أو خيري.

يمكن استخدام أسلوب SMART في تحديد هذه الأهداف: أن تكون محددة، قابلة للقياس، قابلة للتحقيق، واقعية، ومحددة بزمن.

سابعاً: توعية الجيل الجديد بمعاني الهجرة

من المهم أن يُستثمر حلول العام الهجري في تربية النشء على قيم الهجرة، مثل الصبر، والجهاد، والصدق، والأمانة، والتضحية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال:

• قصص السيرة النبوية التي تُحكى بأسلوب مشوق.

• أنشطة مدرسية أو عائلية تتمحور حول معاني الهجرة.

• مشاريع حفظ أحاديث نبوية حول الهجرة والصبر.

• إحياء سنة النبي ﷺ في التعامل والأخلاق.

ثامناً: الاحتفال المشروع والامتناع عن البدع

لا توجد شعائر خاصة للاحتفال ببداية السنة الهجرية، ولكن لا حرج في استغلال المناسبة لتذكير الناس بالهجرة وأحداثها، بشرط أن يكون ذلك خالياً من البدع والمخالفات.

فيمكن إلقاء خطب ومحاضرات في المساجد، أو تنظيم لقاءات علمية، أو توزيع مطويات وكتب تتحدث عن الهجرة وأهميتها.

تاسعاً: الدعاء مع بداية العام

من العبادات الجميلة التي يمكن القيام بها مع حلول العام الجديد، الدعاء بأن يجعله الله عامًا مباركًا، وأن يوفق فيه لكل خير، وأن يُجنب فيه الفتن، وأن يرزقنا التوبة والقبول.

وقد ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يقولون:

“اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى”.

عاشراً: التأريخ بالهجرة وأهميته

من الجدير بالذكر أن اختيار الهجرة بداية للتقويم الإسلامي لم يكن عبثًا، بل كان قرارًا واعيًا اتخذه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تعبيرًا عن مركزية الهجرة في تاريخ الأمة.

إن ربط التقويم بالهجرة هو بمثابة تذكير دائم بأن نهضة الأمة تبدأ من الإيمان والعمل والتضحية، وليس من الحروب أو الفتوحات. فالهجرة كانت الحد الفاصل بين الاستضعاف والتمكين.

خاتمة

استقبال العام الهجري الجديد ليس مناسبة عابرة تُطوى مع انتهاء اليوم الأول من محرم، وإنما هو نقطة انطلاق نحو عام من الإنجاز والسمو الروحي والإصلاح الذاتي. إن المسلم الواعي هو من يدرك أن الزمن رأس ماله، وأن كل عام يمر هو جزء يُقتطع من حياته، وأن أفضل ما يستثمر فيه عمره هو في طاعة الله وخدمة دينه وبناء مجتمعه.

فليكن العام الهجري الجديد بداية صادقة، وعهداً مع الله، وسعيًا إلى ما يُرضيه من القول والعمل.

المراجع:

1. ابن كثير، البداية والنهاية، دار هجر.

2. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري.