من شخصيتك ممكن تختار مهنتك

اختيار المهنة من أهم القرارات التي يواجهها الإنسان في حياته، لأنها ليست مجرد وسيلة لكسب الرزق فقط، بل هي أيضاً عامل رئيسي في تحقيق الرضا النفسي، وتكوين هوية شخصية واجتماعية واضحة. يرتبط النجاح المهني ارتباطاً وثيقاً بشخصية الفرد، إذ أن كل مهنة تحتاج إلى صفات وقدرات معينة تجعل صاحبها قادراً على التأقلم معها والتفوق فيها. لذلك، فإن فهم شخصية الإنسان ومعرفة ما يتلاءم معها من مهن يعد من الأسس المهمة لضمان مستقبل مهني ناجح ومستقر.

العلاقة بين الشخصية والمهنة

تُعرَّف الشخصية بأنها مجموعة الخصائص النفسية التي تميز الفرد في سلوكه وأفكاره ومشاعره، وهي التي تحدد كيف يتفاعل مع المواقف المختلفة، كيف يتعامل مع الآخرين، وكيف يتخذ قراراته. تتأثر الشخصية بالعوامل الوراثية والبيئية، وتتطور مع مرور الزمن حسب الخبرات المكتسبة. من هنا، يمكن القول إن لكل شخصية مميزات تجعلها أكثر ملاءمة لنوع معين من المهن.

على سبيل المثال، هناك أشخاص يتميزون بالهدوء والانطواء، ويميلون إلى العمل الذي يتطلب تركيزاً ودقة مثل المحاسبة أو البرمجة، وهناك آخرون يتمتعون بالحيوية والقدرة على التواصل الاجتماعي، فيناسبهم العمل في المبيعات أو العلاقات العامة. لذلك، يرتبط اختيار المهنة بمدى توافقها مع صفات الشخصية، حتى لا يشعر الفرد بالتوتر أو الإحباط نتيجة عدم القدرة على التعامل مع متطلبات العمل.

تصنيفات الشخصيات وأثرها على اختيار المهنة

أحد أشهر النماذج التي تربط بين الشخصية والمهنة هو نموذج هولاند (Holland’s Theory) الذي يقسم الشخصيات إلى ستة أنماط رئيسية، ويربط كل نمط بمجموعة مهن تتناسب معه:

1. النمط الواقعي (Realistic): يميل إلى العمل اليدوي والعملي، يحب استخدام الأدوات والآلات، يفضل الأعمال التي تتطلب مهارات تقنية أو بدنية. المهن المناسبة له: مهندس ميكانيكي، كهربائي، ميكانيكي سيارات، فني مختبر.

2. النمط البحثي (Investigative): شخص يحب التحليل، البحث، التفكير العلمي، ويهتم بالاستقصاء. المهن المناسبة له: عالم أحياء، طبيب، باحث، مهندس برمجيات.

3. النمط الفني (Artistic): يفضل التعبير عن نفسه من خلال الفن، الإبداع، الموسيقى، والكتابة. المهن المناسبة له: فنان، مصمم جرافيك، كاتب، موسيقي.

4. النمط الاجتماعي (Social): شخص يحب مساعدة الآخرين، تعليمهم، أو تقديم الدعم النفسي. المهن المناسبة له: معلم، طبيب نفسي، مستشار، أخصائي اجتماعي.

5. النمط القيادي (Enterprising): يهوى القيادة، التأثير على الآخرين، وتنظيم الأعمال. المهن المناسبة له: مدير مبيعات، رجل أعمال، سياسي، محامٍ.

6. النمط التقليدي (Conventional): يفضل النظام، الدقة، والالتزام بالقوانين، يحب الأعمال المكتبية والإدارية. المهن المناسبة له: محاسب، موظف إداري، أمين مكتبة.

من خلال معرفة هذا التصنيف يمكن للشخص أن يحدد نمطه الشخصي ويبحث عن مهنة تناسبه، مما يزيد فرص النجاح والرضا في حياته المهنية.

كيف تؤثر سمات الشخصية في الأداء المهني؟

الشخصية ليست مجرد تصنيف نظري، بل لها انعكاسات عملية على كيفية أداء الفرد لعمله، واستمراريته فيه. فمثلاً:

• الانفتاح على التجارب الجديدة: الأشخاص المنفتحون يكونون أكثر استعداداً لتعلم مهارات جديدة والتكيف مع التغييرات في بيئة العمل، مما يجعلهم مناسبين للمهن الديناميكية مثل التسويق، التكنولوجيا، أو ريادة الأعمال.

• الضمير المهني (الاجتهاد والدقة): الأشخاص الذين يتمتعون بضمير مهني عالٍ يلتزمون بالمواعيد، يركزون على التفاصيل، ويحرصون على جودة العمل، وهذا مفيد في المهن التي تتطلب دقة كبيرة مثل الطب، الهندسة، أو المحاسبة.

• الاستقرار العاطفي: الأشخاص المستقرون عاطفياً يستطيعون التعامل مع ضغوط العمل بشكل أفضل، ويتجنبون التوتر المفرط، وهذا يجعلهم يصلحون للعمل في بيئات عالية الضغط مثل المجال العسكري أو الطوارئ.

• الاجتماعية: الأشخاص الاجتماعيون يحبون التفاعل مع الآخرين ويبرعون في بناء العلاقات، وهذا يؤهلهم للعمل في مجالات خدمة العملاء، التعليم، أو العلاقات العامة.

• الانطوائية: قد يفضل هؤلاء العمل في مجالات لا تتطلب اختلاطاً اجتماعياً كبيراً، مثل البرمجة، التصميم، البحث العلمي.

دور الاختبارات النفسية في تحديد المهنة المناسبة

في السنوات الأخيرة، اعتمدت المؤسسات التعليمية والتدريبية على استخدام الاختبارات النفسية في توجيه الطلاب لاختيار التخصص المناسب لهم، حيث تساعد هذه الأدوات في تقييم سمات الشخصية، القدرات الذهنية، والاهتمامات، مما يضمن اختياراً مدروساً ومناسباً.

من أشهر هذه الاختبارات:

• اختبار هولاند للميول المهنية.

• اختبار MBTI (مؤشر نوع الشخصية).

• اختبارات الذكاءات المتعددة.

تساعد هذه الأدوات في الكشف عن الجوانب الشخصية التي قد لا يدركها الفرد بنفسه، وتوفر إطاراً علمياً للاختيار المهني.

تأثير الثقافة والبيئة على اختيار المهنة

بالرغم من أهمية توافق المهنة مع شخصية الفرد، إلا أن الثقافة المحيطة والبيئة الاجتماعية تلعب دوراً لا يقل أهمية. فقد تتأثر اختيارات الأفراد بتوقعات الأسرة، الوضع الاقتصادي، والتقاليد الاجتماعية التي قد تشجع أو تحد من اختيار مهن معينة.

على سبيل المثال، في بعض الثقافات قد يكون هناك تقدير أكبر للمهن الطبية أو الهندسية، مما يجعل الأفراد يتجهون إليها رغماً عن ميولهم الشخصية. كما أن الظروف الاقتصادية قد تدفع البعض إلى قبول وظائف ليست مناسبة لشخصيتهم ولكنها توفر دخلاً مستقراً.

لذلك، يجب أن يتم اختيار المهنة بعناية بحيث يأخذ الفرد في الاعتبار شخصيته، قدراته، وأيضاً بيئته الاجتماعية والثقافية.

كيف يمكن تطوير الشخصية لتناسب مهنة معينة؟

في بعض الأحيان، قد لا تكون شخصية الفرد متوافقة تماماً مع مهنة معينة يرغب بها، لكن هذا لا يعني استحالة النجاح. يمكن للفرد تطوير مهاراته وصفاته الشخصية عن طريق التدريب والتجربة، مما يساعده على التأقلم مع متطلبات العمل.

مثلاً، شخص انطوائي يرغب في العمل في مجال يتطلب تواصلاً اجتماعياً مكثفاً كالبيع أو التعليم، يمكنه تطوير مهارات التواصل، الانخراط في تدريبات على التحدث أمام الجمهور، واكتساب تقنيات إدارة العلاقات.

بالمقابل، من المهم ألا يُجبر الفرد نفسه على مهنة تتعارض جذرياً مع شخصيته، لأن ذلك قد يؤدي إلى احتراق مهني (Burnout) أو إحباط نفسي.

أهمية الوعي الذاتي في اختيار المهنة

الوعي الذاتي هو القدرة على فهم النفس، إدراك نقاط القوة والضعف، والقيم الشخصية. وهو العامل الأساسي الذي يساعد الإنسان على اتخاذ قرارات مهنية سليمة. من خلال الوعي الذاتي يمكن للفرد أن:

• يحدد ما يحب ويكره في العمل.

• يتعرف على المهارات التي يمتلكها والمهارات التي يحتاج لتطويرها.

• يفهم حدود قدراته النفسية والجسدية.

• يوازن بين طموحاته الشخصية ومتطلبات السوق.

كل هذه العناصر تساعد في الوصول إلى مهنة تلبي التطلعات وتمنح شعوراً بالرضا والنجاح.

الجدول التالي يوضح علاقة بعض سمات الشخصية بمهن معينة مناسبة لها:

الخلاصة

الشخصية هي مرآة الإنسان الحقيقية التي تعكس قدراته وميوله، ولا يمكن تجاهلها عند اختيار المهنة. التوافق بين شخصية الفرد والمهنة التي يعمل بها هو عامل أساسي للنجاح المهني والرضا النفسي. يمكن للشخص أن يعتمد على فهم نفسه من خلال أدوات علمية ونماذج متخصصة لتحديد المهن المناسبة له، مع الأخذ في الاعتبار تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية. كما أن تطوير الذات ومهارات معينة قد يساعد في التكيف مع متطلبات مهنة معينة. في النهاية، اختيار المهنة بناءً على الشخصية هو استثمار حقيقي في حياة الإنسان المهنية والشخصية، ويؤدي إلى بناء مستقبل مستقر ومثمر.

المصادر:

• John L. Holland, Making Vocational Choices: A Theory of Vocational Personalities and Work Environments, 1997.

• Schneider, B. (1987). The people make the place. Personnel Psychology, 40(3), 437-453.