ابن طولون: المؤرخ والفقيه والطبيب في حضارة المماليك

مقدمة

ابن طولون هو أحد أبرز العلماء الذين أنجبتهم دمشق في أواخر العصور الوسطى، وتحديدًا في ظل الدولة المملوكية التي كانت تسيطر على مصر والشام خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. اشتهر بتنوع معارفه، إذ جمع بين علوم الدين والتاريخ والطب، وخلّف إرثًا علميًا زاخرًا، شكّل مرآة حقيقية للحياة العلمية والاجتماعية والسياسية في عصره. وبالرغم من أنه لا ينتمي إلى الأسرة الطولونية المؤسسة على يد أحمد بن طولون، إلا أن نسبه ولقبه دفعا الكثيرين للربط بينهما، لكن شخصيته الفريدة ونشاطه العلمي ظلا مميزين ومستقلين عن هذا الارتباط التاريخي.

النشأة والخلفية التاريخية

ولد شمس الدين محمد بن علي بن أحمد بن طولون الدمشقي في مدينة دمشق سنة 880هـ (1475م)، في زمن اتسم بالحراك العلمي المكثف في المراكز الكبرى للعالم الإسلامي مثل القاهرة ودمشق وحلب. كانت دمشق آنذاك حاضنة للعلوم والمعارف، يقصدها الطلاب من كل صوب للنهل من معين علمائها، ما شكّل بيئة ملائمة لظهور العلماء الموسوعيين الذين امتازوا بتعدد الاهتمامات والقدرة على التأليف في مجالات شتى، وابن طولون كان نموذجًا بارزًا لهذا النمط العلمي.

التعليم والتكوين العلمي

نشأ ابن طولون في كنف أسرة متدينة، وبدأ حياته العلمية بحفظ القرآن الكريم، ثم تلقى علوم اللغة العربية على يد كبار النحاة، ودرس الفقه الحنفي، الذي كان المذهب السائد في دمشق. تتلمذ على يد عدد من علماء عصره البارزين، منهم الإمام زكريا الأنصاري والعلامة علي بن عبد الكافي السبكي، ما أكسبه رسوخًا في العلوم الدينية واللغوية.

عُرف عنه التفرغ الكامل للعلم، وكان زاهدًا في الدنيا، لا يقبل وظائف الدولة ولا يسعى إلى مناصب. هذا التوجه جعله أكثر استقلالية في تفكيره وفي اختياراته العلمية، ومكّنه من التأليف الغزير دون قيود سياسية أو سلطوية، وهو ما يظهر جليًا في كتاباته التاريخية التي لم يجامل فيها أحدًا من أهل الحكم.

مؤلفاته

ترك ابن طولون عددًا هائلًا من المؤلفات التي شملت الفقه، والحديث، والتاريخ، والطب، والأدب، والتراجم، وعلوم أخرى. وقد بلغ عدد مؤلفاته ما يفوق الـ 750 عملًا، بين كتب ورسائل ومختصرات وشروح. ومن أهم أعماله:

1. الفلك المشحون في أحوال ابن طولون

وهو كتاب سيرته الذاتية، يعرض فيه مراحل حياته، وأساتذته، ورحلاته العلمية، وأعماله، ويُعد مصدرًا مهمًا لفهم حياة العلماء في تلك الحقبة.

2. القلائد الجوهرية في تاريخ الدولة الجركسية

يعتبر هذا الكتاب من أهم مصادر التاريخ المملوكي في أواخر عهده، وقد وثق فيه الوقائع السياسية والاجتماعية التي شهدها خلال حياته بدقة شديدة، مستندًا إلى ملاحظاته الشخصية ومصادره المتعددة.

3. الذخائر المحفوظة في أخبار المدرسة الظاهرية

وثيقة بالغة الأهمية تسجل تاريخ واحدة من أهم المؤسسات التعليمية في دمشق، وهي المدرسة الظاهرية، التي كانت مركزًا للعلم منذ عصر الظاهر بيبرس.

4. إعلام الورى بمن ولي نيابة دمشق الكبرى

يتناول هذا الكتاب سير القضاة والولاة الذين حكموا دمشق، ويجمع بين الطابع الموسوعي والدقة التاريخية.

5. مفاتيح الطب

وهو كتاب في الطب استند فيه إلى التجربة والملاحظة، كما اعتمد على التراث الطبي الإسلامي واليوناني، وقدم فيه وصفات وعلاجات لعدد من الأمراض المنتشرة في عصره.

6. كتب في الفقه والحديث

ألّف عددًا من الشروح على كتب الفقه الحنفي، وكتبًا في الحديث الشريف مثل شرح صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، فضلًا عن مختصرات فقهية تسهّل على الطلبة فهم المتون.

أسلوبه في التأليف

تميّز ابن طولون بأسلوب واضح ودقيق في كتاباته، يتجنب الزخرف اللغوي، ويميل إلى الاختصار دون الإخلال بالمعلومة. كما أنه غالبًا ما يعرض مصادره ويُبدي رأيه في صحتها، مما يعكس مستوى متقدمًا من النقد التاريخي والمنهجي. يظهر من كتبه حرصه على التوثيق وإيراد الأسانيد، واهتمامه بتسجيل الأحداث كما هي، حتى وإن كانت تتعارض مع توجهات السلطة، مما أكسبه مصداقية كبيرة بين الباحثين والمؤرخين.

الطب عند ابن طولون

إلى جانب اهتمامه بالتاريخ والفقه، كان لابن طولون مساهمات معتبرة في الطب، حيث درس أعمال الرازي وابن سينا وغيرهما، وقام بتطبيق بعض وصفاتهم مع التعديل أو التحسين. لم يكن ينظر إلى الطب كعلم تطبيقي فحسب، بل كجزء من المعرفة العامة التي ينبغي للعالم الإلمام بها. وقد مارس الطب عمليًا وسجّل بعض الحالات التي عالجها، ما يجعل كتاباته الطبية من مصادر الطب الوقائي والتقليدي في العصور الإسلامية المتأخرة.

مكانته العلمية

رغم زهد ابن طولون وبعده عن دوائر السلطة، إلا أن مكانته العلمية كانت راسخة، وكان يحظى بتقدير كبير من قبل علماء عصره ومن جاء بعدهم. اعتمد عليه عدد من المؤرخين اللاحقين مثل ابن العماد الحنبلي في كتابه شذرات الذهب، والسيوطي في بعض مصنفاته، وكذلك المقريزي وإن لم يكونوا معاصرين له.

وقد تميز عن غيره من المؤرخين بجمعه بين الرؤية الداخلية والخبرة الشخصية، فهو لم يكن فقط ناقلًا للأخبار، بل كان شاهدًا ومحللًا لها، وهذا ما جعل مؤلفاته مرجعًا أساسيًا لفهم التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي لبلاد الشام في أواخر العصر المملوكي.

الجدول التالي يلخص أبرز مؤلفاته ومجالاتها:

وفاته وإرثه العلمي

توفي ابن طولون سنة 953هـ (1546م) بعد حياة حافلة بالتأليف والتعليم. وقد دُفن في دمشق، المدينة التي أحبها وخلدها في كتاباته. وعلى الرغم من مرور قرون على وفاته، فإن أثره العلمي ما زال حاضرًا في الدراسات التاريخية والفكرية حول الفترة المملوكية، ولا يزال باحثو الشرق والغرب يرجعون إلى كتبه كمصادر موثوقة وشاملة.

تكمن أهمية ابن طولون في كونه مثالًا للعلماء الموسوعيين الذين جمعوا بين العلم والعمل، وبين الدين والدنيا، وبين التوثيق والتحليل، ونجحوا في تشكيل صورة دقيقة ومعمقة لعصرهم، وهو ما يجعل من دراسة أعماله أمرًا لا غنى عنه لفهم تاريخ الشام ومصر في أواخر العصور الوسطى.

المصادر والمراجع

1. ابن طولون، “القلائد الجوهرية في تاريخ الدولة الجركسية”، مخطوط محفوظ في دار الكتب الظاهرية، دمشق.

2. حاجي خليفة، “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون”، تحقيق: إسماعيل باشا، المطبعة العثمانية، 1897.