ابن حجر الهيتمي: فقيه الشافعية

ابن حجر الهيتمي: سيرته، مؤلفاته، ومكانته العلمية

يُعَدّ الإمام ابن حجر الهيتمي واحدًا من أعلام الفقه الإسلامي في القرن العاشر الهجري، وأحد أبرز فقهاء الشافعية الذين تركوا بصمات راسخة في الفكر الإسلامي، من خلال مؤلفاته الفقهية والعقدية والتصوفية التي أثْرت المكتبة الإسلامية. كان موسوعيًا في علمه، قويًّا في حجّته، صلبًا في عقيدته، معتدلاً في طرحه، واشتهر بمواقفه الدفاعية عن أهل السنّة والجماعة في مواجهة التيارات المنحرفة في عصره. اسمه الكامل هو: أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري الشافعي، وقد خُلِطَ كثيرًا بينه وبين الإمام ابن حجر العسقلاني المحدث المعروف، رغم اختلاف الحقبة والعلم التخصصي، إلا أن كليهما ترك إرثًا علميًا عظيمًا.

النشأة والميلاد

وُلِد الإمام ابن حجر الهيتمي في مكة المكرمة سنة 909هـ / 1503م، في أسرة علمية شريفة تعود أصولها إلى قبيلة بني سَعْد، وتنتسب إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري، مما أكسبه نسبًا شريفًا وزاده رفعة واعتبارًا بين علماء عصره. نشأ يتيم الأب، إلا أن عنايته العلمية بدأت مبكرًا، حيث التحق بحلقات العلم في المسجد الحرام ودرس على أيدي كبار علماء مكة.

رحلاته العلمية وشيوخه

بعد تلقيه العلوم الأساسية في مكة، ارتحل إلى القاهرة، التي كانت في ذلك الوقت مركزًا من مراكز العلم الكبرى في العالم الإسلامي، والتحق بالأزهر الشريف، الذي كان في أوج ازدهاره، فنهل من علومه وتأثر بكبار علمائه. من أشهر شيوخه الذين تلقى عنهم:

• الإمام شمس الدين الرملي (ت 957هـ)، والذي يُعد من أبرز علماء الشافعية في مصر.

• الإمام زكريا الأنصاري، أحد كبار المراجع الفقهية في ذلك العصر.

• الإمام محمد بن قاسم الغزي.

• نور الدين المحلي.

ومن خلال هذه الرحلات، استطاع الإمام ابن حجر الهيتمي أن يجمع بين علوم الشام والحجاز ومصر، ما كوَّن له شخصية علمية متكاملة وفريدة.

مكانته العلمية في المذهب الشافعي

يُعَدّ ابن حجر الهيتمي واحدًا من الركنين الأساسيين اللذين اعتمدهما متأخرو الشافعية في الفتوى، إلى جانب الإمام الرملي. ويُقال في أوساط الشافعية: “الفتوى على ما في كتب الرملي والهيتمي“. وهو ما يدل على مدى تأصيله الفقهي وإتقانه لعلم الفروع.

كان فقيهًا متعمقًا، جمع بين الفهم الدقيق للنصوص الشرعية والقدرة على التطبيق الواقعي، مما جعل فتاواه تحظى بقبول واسع في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، خاصة في بلاد الحجاز، اليمن، مصر، الهند، وأفريقيا الشرقية.

مؤلفاته وأعماله العلمية

ترك الإمام ابن حجر الهيتمي عددًا كبيرًا من المؤلفات التي تنوعت بين الفقه، العقيدة، التفسير، التصوف، الردود العقدية، والفتاوى. ومن أشهر هذه المؤلفات:

1. تحفة المحتاج بشرح المنهاج

ويُعَد هذا الكتاب من أهم كتب الفقه الشافعي، حيث قام فيه بشرح كتاب “المنهاج” للإمام النووي. وقد جمع فيه بين المتانة الفقهية والدقة في عرض الأقوال والترجيحات، حتى أصبح مرجعًا رئيسيًا في الفقه الشافعي.

2. الصواعق المحرقة على أهل البدع والزندقة

ألفه في الرد على بعض الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، مثل الرافضة والمعتزلة. ويُظهر هذا الكتاب مدى سعة اطلاعه على الفرق الإسلامية المختلفة، إضافة إلى غيرته على العقيدة الإسلامية.

3. الزواجر عن اقتراف الكبائر

من أهم كتبه في مجال الوعظ والإصلاح الاجتماعي. استعرض فيه الكبائر السبعين وشرحها مع الأدلة من الكتاب والسنة، ويُعد مرجعًا أخلاقيًا وسلوكيًا مهمًا.

4. الفتاوى الفقهية الكبرى

مجموعة ضخمة من فتاويه التي أرسلها إليه الناس من مختلف الأمصار. تناول فيها مسائل فقهية دقيقة، منها ما لم يكن قد ورد في كتب المتقدمين، مما يعكس عمق فهمه للواقع وتحقيقه للنوازل.

5. الإعلام بقواطع الإسلام

أوضح فيه نواقض الإسلام بطريقة علمية رصينة، وكان هدفه التصدي للممارسات والانحرافات التي انتشرت في عصره.

6. المنح المكية في شرح الهمزية النبوية

شرح فيه قصيدة الإمام البوصيري المعروفة، بأسلوب جمع بين العلم والأدب.

الخصائص العلمية لفكره ومنهجه

امتاز ابن حجر الهيتمي بعدة خصائص علمية جعلت من إنتاجه مرجعًا في الفقه والعقيدة، وأهم هذه الخصائص:

• المنهج الأصولي الفقهي: كان دقيقًا في استنباط الأحكام الشرعية، لا يعتمد على الرأي المجرد، بل يبني فتاواه على النصوص الشرعية المحكمة.

• التزامه بمذهب الشافعية دون تعصب: فقد التزم بالمذهب في التفاصيل الفقهية، لكنه لم يكن جامدًا، بل كانت له اختيارات فقهية موفقة.

• حماية العقيدة السنّية: حمل لواء الدفاع عن أهل السنة، وكتب العديد من المؤلفات في الرد على المخالفين.

• الجمع بين الشدة واللين: فكان في بعض كتبه حازمًا في الرد على المبتدعة، بينما كان في مؤلفاته الأخلاقية رقيق العبارة، عميق التأثير.

• الاهتمام بالواقع والفتاوى المعاصرة: وهذا يتضح في مؤلفاته الفقهية، حيث عالج نوازل عصره دون الاقتصار على النقل الحرفي.

مكانته عند العلماء

حظي ابن حجر الهيتمي بمكانة رفيعة بين العلماء والفقهاء، إذ وصفه تلاميذه وأقرانه بـ”إمام المحققين”، و”شيخ الإسلام”، و”خاتمة المحققين الشافعية”. وأشار كثير من العلماء إلى أنه أعاد لمذهب الشافعي هيبته في القرن العاشر الهجري.

كما أثنى عليه العلماء الذين جاؤوا بعده، ومنهم:

• الإمام مرتضى الزبيدي، الذي قال عنه: “هو خاتمة المجتهدين في مذهب الشافعية”.

• الإمام الشافعي اليمني محمد بن علي الشوكاني، الذي اعتبره من أعلام الفقه والتأصيل.

حياته الاجتماعية ودوره الإصلاحي

لم يكن ابن حجر الهيتمي عالمًا منعزلًا في محرابه، بل كان ناشطًا اجتماعيًا، يُشرف على حل النزاعات بين الناس، ويُصلح ذات البين، ويصدر الفتاوى التي تنير السبيل للناس في معاملاتهم، سواء في الحجاز أو في مصر. كانت له مواقف جريئة في وجه الظلم والانحراف، خصوصًا ما يتعلق بانتهاك حدود الشريعة.

منهجه في الرد على الفرق

من أبرز ما ميز الإمام ابن حجر الهيتمي هو موسوعيته في دراسة الفرق الإسلامية، ولم يكن يكتفي بنقل أقوالهم، بل يدرسها ويحللها ويفنّدها بالدليل العقلي والنقلي. وقد تجلّى هذا بشكل واضح في كتابه “الصواعق المحرقة”، الذي يُعَد من أعنف الردود على الفرق المخالفة مثل الشيعة الإمامية والسبئية والمعتزلة.

كما أظهر انفتاحًا علميًا على الفرق، فكان ينقل آراءهم بحيادية في بعض المواضع قبل أن يردّها، مما يدل على نزعته العلمية المنهجية.

وفاته

توفي الإمام أحمد بن حجر الهيتمي في مكة المكرمة سنة 974هـ / 1567م، بعد عمرٍ حافل بالعطاء العلمي والدعوة والإصلاح. ودُفن هناك، وظل قبره مزارًا لطالبي العلم والعارفين بفضله.

أثره في العالم الإسلامي

لا يمكن الحديث عن الفقه الشافعي في القرون الأخيرة دون ذكر ابن حجر الهيتمي. فقد أثّر تأثيرًا بالغًا في المدارس الفقهية الإسلامية، ولا تزال كتبه تُدرّس في المعاهد الإسلامية الكبرى، مثل الأزهر الشريف، والجامع الكبير في صنعاء، والجامعات الإسلامية في الهند وماليزيا وإندونيسيا.

وقد ساهمت مؤلفاته في تشكيل الوعي الديني والفقهي للأمة الإسلامية، خاصة في مناطق واسعة من آسيا وأفريقيا، التي تتبع المذهب الشافعي.

جدول يوضح أبرز مؤلفات ابن حجر الهيتمي

المصادر والمراجع:

• الزركلي، خير الدين. الأعلام. دار العلم للملايين.

• حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. دار إحياء التراث العربي.

بهذه السيرة العلمية الغنية والمؤلفات المتنوعة، يمكن اعتبار الإمام ابن حجر الهيتمي من الأركان الأساسية التي حفظت للفقه الشافعي مكانته، ولأهل السنة والجماعة عقيدتهم في زمن كثرت فيه الفتن والانحرافات.