أهم أعمال صلاح الدين الأيوبي: القائد الذي أعاد للأمة الإسلامية مجدها

في سياق التاريخ الإسلامي، تُعد شخصية صلاح الدين الأيوبي واحدة من أكثر الشخصيات الملهمة التي تركت أثراً بالغ العمق في ذاكرة المسلمين والعالم أجمع. ليس فقط لمهارته العسكرية أو لفتوحاته المذهلة، بل أيضاً لصفاته الأخلاقية التي جعلته رمزاً للعدل والرحمة والحكمة السياسية. ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب عام 1137م (532 هـ) في تكريت، وارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بالحروب الصليبية وتحرير القدس. غير أن إرثه يتجاوز النصر العسكري إلى منظومة متكاملة من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية والدينية والثقافية التي نهضت بالمنطقة الإسلامية في عصره.

في هذا المقال، سنغوص بتفصيل موسع في أهم أعمال صلاح الدين الأيوبي، مستعرضين إنجازاته الكبرى التي امتدت من ساحة المعركة إلى أروقة الحكم، ومن بناء الدولة إلى إصلاح المجتمع، في محاولة لإبراز الصورة الشاملة لرجل الدولة والقائد المسلم الاستثنائي.

توحيد الجبهة الإسلامية وتأسيس الدولة الأيوبية

من أعظم إنجازات صلاح الدين كان نجاحه في توحيد العالم الإسلامي في المشرق العربي، وهو إنجاز لم يكن سهلاً في ظل التشرذم الذي ساد المنطقة نتيجة لتفكك الدولة الفاطمية والصراعات بين الأمراء الزنكيين والسلاجقة.

بعد أن بدأ خدمته تحت راية عماد الدين زنكي ونور الدين محمود في الشام، تم إرساله إلى مصر ضمن الحملة الزنكية للتصدي للنفوذ الصليبي والفاطمي فيها. وهناك، أظهر براعة فذة في القيادة والسياسة، فاستطاع خلال سنوات قليلة القضاء على الحكم الفاطمي الشيعي وتأسيس سلطته السنية مكانه، معلناً بداية الدولة الأيوبية عام 1171م.

لقد أدرك صلاح الدين أن الانقسام بين الشام ومصر أضعف القدرة على مواجهة الصليبيين، فعمل على توحيد هذين المركزين الحيويين، ثم امتد نفوذه تدريجياً ليشمل الحجاز واليمن وبلاد النوبة وأجزاء من شمال إفريقيا. هذا التوحيد لم يكن مجرد ضم سياسي، بل أسس وحدة استراتيجية ذات بعد عسكري واقتصادي وعقائدي، مما شكل قاعدة صلبة لمواجهة الحملات الصليبية.

الإصلاح الإداري والتنظيم الحكومي

إدراكاً منه لأهمية بناء الدولة من الداخل، شرع صلاح الدين في تنفيذ حزمة من الإصلاحات الإدارية والتنظيمية، هدفها تعزيز كفاءة الجهاز الحكومي وضمان العدالة في توزيع الموارد. وقد شملت هذه الإصلاحات:

• إعادة هيكلة الدواوين: أنشأ ديوان الإنشاء لتوثيق المراسلات والديوان المالي لإدارة الضرائب والجبايات، وأعاد تنظيم ديوان الجند الذي يشرف على أمور الجيش.

• محاربة الفساد: أقال العديد من الولاة الذين اشتهروا بسوء الإدارة أو الفساد، ووظف بدلاً منهم رجالاً عرفوا بالنزاهة والكفاءة.

• التقشف في الإنفاق: رفض صلاح الدين مظاهر الترف السلطوي، وفرض رقابة صارمة على النفقات المالية، مما مكّن الدولة من توجيه مواردها نحو الجيش والإصلاحات.

إحياء السنة ومحاربة البدع العقدية

أحد أبرز أدوار صلاح الدين الفكرية تمثلت في تصديه للتيارات العقدية المنحرفة، خاصة تلك التي ترسخت خلال الحكم الفاطمي في مصر، والتي اتسمت بنشر الفكر الشيعي الإسماعيلي والترويج للخرافات والشعوذة باسم الدين.

• إعادة المذهب السني: بعد إلغاء الخلافة الفاطمية، أعاد صلاح الدين المذهب السني ليكون المرجعية الأساسية للدولة، وأعاد تدريس العقيدة الأشعرية والفقه الشافعي والحنفي والمالكي في المدارس.

• إنشاء المؤسسات العلمية: أسس مدارس عديدة، من أبرزها المدرسة الناصرية والمدرسة الصلاحية في القدس، لنشر العلم الشرعي واللغة العربية والعلوم الدينية.

• إصلاح المساجد: أمر بإعادة تعمير المساجد وترميمها وتزويدها بالعلماء والخطباء المؤهلين.

بناء القوة العسكرية وتنظيم الجيش

كانت القوة العسكرية حجر الزاوية في مشروع صلاح الدين السياسي، وقد أولى الجيش اهتماماً بالغاً جعله واحداً من أقوى الجيوش في عصره.

• نظام الإقطاع العسكري: استخدم نظام الإقطاع كوسيلة لتوفير التمويل للجيش، بحيث يمنح الجند قطعة أرض مقابل الخدمة العسكرية، وهو ما ساهم في رفع الروح المعنوية وتنظيم الصفوف.

• التسليح والتدريب: عمل على تحديث المعدات الحربية وتوفير التدريب اللازم للجنود، خاصة في فنون القتال والمناورة والكرّ والفرّ.

• بناء الأساطيل البحرية: أنشأ أسطولاً قوياً في مصر وساحل الشام لمواجهة القوة البحرية الصليبية.

تحرير القدس والانتصار في معركة حطين

تُعد معركة حطين عام 1187م (583 هـ) أحد أعظم إنجازات صلاح الدين، حيث واجه فيها جيوش الصليبيين بقيادة ملك القدس “غي دي لوزينيان” وتمكن من سحقهم في معركة محورية فتحت الطريق أمام استعادة القدس.

• استراتيجية محكمة: استدرج الصليبيين إلى سهل حطين المحاصر بنقص المياه، وهاجمهم في موقع استراتيجي منح جيشه الأفضلية.

• النتائج: قُتل وأُسر آلاف الصليبيين، وتم الاستيلاء على معظم ممالكهم الساحلية، وتم تحرير القدس بعد 88 عاماً من الاحتلال.

ما ميّز فتح القدس أنه تم دون مجازر، إذ سمح صلاح الدين للنصارى بالخروج من المدينة بعد دفع فدية رمزية، ووفّر الحماية للكنائس والرجال الدين المسيحيين، مما أكسبه احتراماً واسعاً حتى في الغرب الأوروبي.

السياسة الخارجية والتعامل مع القوى الأوروبية

امتاز صلاح الدين بمرونة سياسية ودبلوماسية عالية مكنته من إدارة العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية بشكل متوازن.

• الهدنات المرحلية: استخدم صلاح الدين المعاهدات كوسيلة لالتقاط الأنفاس أو إعادة ترتيب الصفوف دون إضعاف موقفه.

• الرسائل السياسية: تبادل الرسائل مع ملوك أوروبا، وتمكن من الحفاظ على خطوط تواصل مع بعض الفئات غير المعادية.

• إدارة الحملة الصليبية الثالثة: تصدى ببسالة للحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد قلب الأسد، وعلى الرغم من المعارك الضارية التي نشبت بين الطرفين، إلا أن صلاح الدين استطاع الحفاظ على القدس وتثبيت السيادة الإسلامية على أغلب مدن الشام.

الجدول التالي يوضح بعض أبرز إنجازاته حسب المجالات:

الرؤية الحضارية والبعد الإنساني

لم تقتصر أعمال صلاح الدين على الجوانب السياسية والعسكرية، بل كان قائداً يحمل رؤية حضارية متكاملة:

• التسامح الديني: رفض سياسات الانتقام أو الإقصاء، وفتح باب الحرية الدينية لأهل الكتاب بعد تحريره للقدس.

• الرعاية الاجتماعية: أنشأ المستشفيات ودور الأيتام وبيوت الضيافة للفقراء.

• الاهتمام بالعلماء: أحاط نفسه بكبار العلماء والفقهاء والأطباء، ومنهم القاضي الفاضل والعماد الأصفهاني.

وفاته والإرث الذي تركه

توفي صلاح الدين الأيوبي عام 1193م (589 هـ) في دمشق، بعد حياة حافلة بالكفاح والعمل لبناء أمة قوية موحدة. لم يترك في خزينته سوى بضعة دنانير، دليلاً على زهده في الدنيا وحرصه على خدمة الإسلام دون الترف في مغانم السلطة.

إرثه ظل حاضراً بقوة في ذاكرة المسلمين لقرون، وأصبح نموذجاً يُحتذى في القيادة والبطولة والعدل، وخلّدت ذكراه في الكتب والمدن والأناشيد والقصص الشعبية في كل أرجاء العالم الإسلامي.

المصادر

• ابن شداد، بهاء الدين. النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية.

• علي محمد الصلابي. صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس.