إسلام في أمريكا: نشأة وتطور

إسلام صنع في أمريكا

تمثل العلاقة بين الإسلام والولايات المتحدة الأمريكية مزيجاً معقداً من التفاعل الثقافي والديني والاجتماعي، وتكاد تكون مثالاً حيّاً على قدرة الأديان العالمية على التكيّف مع السياقات المحلية الجديدة. لقد كان دخول الإسلام إلى الولايات المتحدة جزءاً من رحلة تاريخية طويلة بدأها العبيد الأفارقة المسلمون، وتوسعت بمرور الزمن من خلال المهاجرين والمواليد الجدد، لتُنتج في النهاية ظاهرة فريدة أطلق عليها بعض الباحثين اسم “إسلام صنع في أمريكا”.

جذور الإسلام في أمريكا: من السفن إلى الحواضر

عند الحديث عن نشأة الإسلام في الولايات المتحدة، لا يمكن تجاهل السياق التاريخي المرتبط بجلب الملايين من الأفارقة كعبيد خلال القرون السابع عشر والثامن عشر. تشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 15% من هؤلاء العبيد كانوا مسلمين، وقد جُلبوا من مناطق غرب إفريقيا حيث كانت الثقافة الإسلامية مزدهرة. ورغم المحاولات المستميتة لمحو هويتهم الدينية واللغوية، إلا أن العديد من هؤلاء حافظوا على عاداتهم الإسلامية بشكل جزئي، فظلت تعاليم القرآن والطقوس اليومية حاضرة في شكلها الرمزي داخل مجتمعات العبيد.

لكن هذا الإسلام، المنغلق والمقموع، لم يستمر طويلاً كدين ظاهر؛ فقد تم سحقه من خلال عمليات التنصير والعزلة القسرية عن الجذور الثقافية. غير أن أثره استمر متغلغلاً في أنماط الروحانية والممارسات الثقافية التي تطورت لاحقاً في المجتمعات الأفريقية-الأمريكية.

القرن العشرون وبروز “إسلام أمريكي”

مع بدايات القرن العشرين، بدأت تظهر حركات إسلامية جديدة في الولايات المتحدة، تحمل مزيجاً من الرسائل الدينية والنزعة القومية الإفريقية. ومن أبرز تلك الحركات “أمة الإسلام” (Nation of Islam) التي تأسست في عام 1930 على يد والي فاراد محمد، وتوسعت لاحقاً بقيادة إيليا محمد، ثم مالكوم إكس، قبل أن تنفتح لاحقاً على تعاليم الإسلام السني التقليدي في عهد وارث الدين محمد.

تميّزت أمة الإسلام بتوجهها نحو التمكين الذاتي للأمريكيين من أصول أفريقية، مستندة إلى مفاهيم الاستقلال الاقتصادي، والانفصال الثقافي، وتفوق العرق الأسود، ما جعلها أكثر من مجرد حركة دينية. وفي حين اعتُبرت من قِبل بعض الفقهاء خارج الإسلام التقليدي في بداياتها، فإنها أدّت دوراً مهماً في تحويل الإسلام إلى هوية ثقافية وسياسية واضحة في السياق الأمريكي.

التحول من “أمة” إلى “أمة سنية”

مع وفاة إيليا محمد في السبعينيات، شهدت حركة أمة الإسلام تحولاً جذرياً على يد ابنه وارث الدين محمد، الذي قاد مسيرة نحو الاعتراف بالعقيدة السنية، وفتح باب التواصل مع المجتمعات الإسلامية العالمية. وتحول الكثير من أتباع أمة الإسلام إلى ما يُعرف بالإسلام السني المعتدل، وابتعدوا عن النزعة الانعزالية، ما أدى إلى دمجهم التدريجي في المجتمعات الإسلامية الواسعة في الولايات المتحدة.

في المقابل، رفض لويس فرقان هذا التوجه، وأعاد إحياء أمة الإسلام برؤية أقرب إلى الأصل، مما حافظ على وجود خطاب إسلامي “مصنوع محلياً” يعكس خصوصية التجربة الأمريكية للسود المسلمين.

الهجرة الإسلامية وبناء مجتمع متنوع

ابتداءً من ستينيات القرن العشرين، ساهم قانون الهجرة لعام 1965 في تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين المسلمين إلى الولايات المتحدة من بلدان عربية وآسيوية وأفريقية. هذا التنوع الهائل ساهم في إعادة تشكيل ملامح الإسلام الأمريكي، حيث أسهم هؤلاء في بناء المساجد، وإنشاء المدارس الإسلامية، وإطلاق منظمات مجتمع مدني تمثل مختلف المدارس الفقهية والمذاهب الإسلامية.

شهدت هذه المرحلة ولادة مؤسسات عريقة مثل “الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية” (ISNA)، و”المجلس الإسلامي الأمريكي”، و”مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية” (CAIR)، والتي لعبت دوراً محورياً في تعريف الأمريكيين بالإسلام، والدفاع عن حقوق المسلمين، ومواجهة الصورة النمطية السلبية المتزايدة خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

إسلام ما بعد 11 سبتمبر: أزمة الهوية والانفتاح

كانت أحداث 11 سبتمبر نقطة تحول حاسمة في تاريخ الإسلام في أمريكا. فقد واجه المسلمون الأمريكيون موجة من العداء والتحريض الإعلامي والسياسي، كما فرضت عليهم رقابة أمنية مشددة. في المقابل، دفعت هذه الأحداث المجتمع الإسلامي الأمريكي نحو المزيد من الانخراط في العمل المدني، وتطوير خطاب دعوي وإعلامي يتلاءم مع السياق الأمريكي، ويركز على القيم المشتركة كالسلام، والعدالة، والمواطنة الصالحة.

تبلورت في هذه الفترة مشاريع فكرية ومجتمعية تؤكد على أن الإسلام ليس غريباً عن أمريكا، بل هو دين قادر على التفاعل البنّاء ضمن المنظومة الديمقراطية الغربية. وظهر مصطلح “الإسلام الأمريكي” أو “إسلام صنع في أمريكا” كمفهوم يعكس هذا المزج بين العقيدة الإسلامية والتجربة الأمريكية المدنية.

الخصائص المميزة لـ “إسلام أمريكي”

الإسلام الذي تطور في الولايات المتحدة ليس مجرد نسخة منقولة من المشرق أو المغرب، بل هو تيار اجتماعي وروحي يعبّر عن فهم خاص للتدين يتماشى مع ثقافة الحرية الفردية، والتعددية، والمساواة.

ومن أبرز خصائص هذا الإسلام:

الإسلام كمكون من مكونات الهوية الأمريكية

رغم محاولات التهميش والتمييز، إلا أن المسلمين الأمريكيين أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للولايات المتحدة. تشير الإحصائيات إلى أن المسلمين الأمريكيين هم من أكثر المجموعات الدينية تنوعاً ونجاحاً على المستويين العلمي والمهني، حيث يتبوأ الكثير منهم مناصب قيادية في الطب، والتعليم، والقانون، والاقتصاد، والسياسة.

أكثر من ذلك، بدأت الثقافة الشعبية الأمريكية تستوعب التواجد الإسلامي، من خلال السينما، والموسيقى، والأدب، والبرامج الحوارية، مما أوجد فضاءً عاماً يستطيع المسلمون من خلاله التعبير عن هويتهم دون التخلي عن إيمانهم.

التحديات الداخلية والخارجية

ورغم النجاحات الملحوظة، إلا أن “الإسلام الأمريكي” لا يزال يواجه تحديات جمة، تتراوح بين تصاعد الإسلاموفوبيا، والانقسام الداخلي بين التيارات المحافظة والليبرالية، وبين حاجات الجيل الجديد من المسلمين الذين وُلدوا في أمريكا، ويحاولون المواءمة بين هويتهم الدينية والثقافية الأمريكية.

كما يواجه هذا الإسلام محكّات فكرية وعقدية تتعلق بكيفية التعامل مع قضايا المرأة، والهوية الجندرية، والحرية الدينية، وقضايا الشريعة والدستور، في بلد يُعدّ من أكثر البلدان تشدداً في الفصل بين الدين والدولة.

مستقبل الإسلام في أمريكا: نحو نموذج عالمي

يمثل “إسلام صنع في أمريكا” تجربة رائدة من حيث قابلية الإسلام للتكيّف الحضاري مع بيئات جديدة، دون أن يفقد جوهره العقائدي. بل يمكن القول إن الإسلام الأمريكي مرشح لأن يكون نموذجاً عالمياً للتعايش بين الدين والديمقراطية، إذا ما استطاع أن يعزز مفهوم “المسلم المواطن”، وينجح في مواجهة التحديات الفكرية والاجتماعية المعاصرة.

فبين التيارات المحافظة التي تخشى الذوبان، والتيارات الليبرالية التي تسعى للتجديد، يقف الإسلام الأمريكي اليوم في مفترق طرق، يملك من أدوات القوة الفكرية والتنظيمية ما يسمح له بالتأثير محلياً وعالمياً، شرط أن يحتفظ بتوازنه الداخلي، ويواصل السير نحو التكامل مع المجتمع دون التخلي عن ثوابته.

المصادر:

• Curtis IV, Edward E. Muslims in America: A Short History. Oxford University Press, 2009.

• Pew Research Center. “Muslims in America: Demographic and Social Trends.” 2017.