إدريس بن عبد الله: مؤسس الدولة الإدريسية ورائد التأسيس السياسي والديني في المغرب

يعد إدريس بن عبد الله، المعروف أيضًا باسم إدريس الأول، من أعظم الشخصيات التاريخية التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل مسار المغرب السياسي والديني خلال القرن الثامن الميلادي. فقد كان هذا الرجل من أحفاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ينتمي إلى نسل الإمام علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما، ومن هنا جاء لقبه «الهاشمي» الذي يشير إلى انتسابه إلى بني هاشم. هذا الانتماء النبيل جعل منه شخصية ذات نفوذ روحي وسياسي قوي، ساهم بشكل فعال في تأسيس أول دولة إسلامية مستقلة في المغرب العربي، وهي الدولة الإدريسية.

النشأة والخلفية العائلية

وُلد إدريس بن عبد الله في عام 745 ميلادي (127 هـ) في المدينة المنورة في شبه الجزيرة العربية، في أسرة هاشمية نبيلة، تربى في بيئة دينية وعلمية عميقة، حيث تلقى علوم الشريعة الإسلامية والتاريخ والفقه على يد كبار العلماء والمشايخ في المدينة. ينتمي إدريس إلى نسل الإمام الحسن بن علي، حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مما أكسبه مكانة خاصة بين المسلمين، وخاصة بين أتباع المذهب الشيعي، الذين كانوا يطمحون لاستعادة حكم أهل البيت في العالم الإسلامي.

الهروب من الاضطهاد العباسي

شهد إدريس فترة مضطربة للغاية من الناحية السياسية في العراق وسائر بلاد المسلمين، حيث كان العباسيون قد سيطروا على الحكم منذ منتصف القرن الثامن، وبدأوا حملة قمع ممنهجة ضد أحفاد النبي وأتباعهم من الشيعة، خوفًا من تحركات سياسية ودينية تهدد حكمهم. وعندما علم إدريس بالاضطهاد الذي تعرض له أبوه عبد الله المنصور، الذي قُتل بسبب موقفه من الحكم العباسي، قرر الفرار بحثًا عن ملاذ آمن.

قادته رحلته إلى المغرب، حيث كانت المنطقة تعاني من ضعف السلطة المركزية العباسية، ووجود قبائل أمازيغية مستقلة تبحث عن قيادة تضمن لها الاستقرار والأمن. في المغرب وجد إدريس ملاذًا آمنًا في قبائل الأمازيغ وخاصة قبيلة زناتة، التي رحبت به باعتباره إمامًا هاشميًا ذا مكانة دينية رفيعة، مما مكنه من البدء في بناء دولة مستقلة.

تأسيس الدولة الإدريسية

بدأ إدريس بن عبد الله بناء دولته في المغرب عام 788 ميلادي (172 هـ)، حيث استقر أولاً في منطقة وليلي (وهي مدينة قديمة تقع في شمال المغرب الحالي)، وبدأ بتنظيم الدولة ونشر الإسلام وفقًا لرؤيته المبنية على تطبيق الشريعة الإسلامية وإعادة بناء السلطة السياسية على أسس دينية. أسس إدريس نظام حكم يعتمد على توحيد القبائل المختلفة تحت راية الإسلام، مستفيدًا من مكانته كهاشمي ورمز ديني معتبر.

انتشر نفوذ الدولة الإدريسية بسرعة، وبدأ إدريس في تأسيس مؤسسات الحكم والإدارة التي اعتمدت على الشريعة، ونشر الفقه الإسلامي، ودعم العلماء والفقهاء، وأسس قضاءً عادلًا يعكس مبادئ الإسلام. كما شجع على الاستقرار الاقتصادي والزراعي من خلال تشجيع الزراعة والتجارة، ونجح في جعل مدينته وليلي مركزًا حضاريًا وعلميًا بارزًا في شمال أفريقيا.

الجوانب الدينية للدولة الإدريسية

كان للدين مكانة خاصة في حكم إدريس بن عبد الله، حيث اعتمد في تأسيس دولته على تعزيز الهوية الإسلامية والتقاليد الدينية التي ارتبطت بآل البيت، مما جعله رمزًا روحيًا للمسلمين في المنطقة. لقد كان إدريس يحظى بتقدير كبير من قبل الأمازيغ وغيرهم من سكان المغرب بفضل مكانته كإمام هاشمي.

كما أن الدولة الإدريسية شكلت منطلقًا للمدارس الفقهية والعلوم الإسلامية في المغرب، حيث اجتذب إدريس العلماء والفقهاء من المشرق إلى المغرب، مما ساهم في ترسيخ الثقافة الإسلامية هناك. وقد كان له دور في حماية المنتسبين إلى أهل البيت، وتوفير الحماية لهم من الاضطهاد العباسي، بالإضافة إلى توفير إطار سياسي يضمن وحدة المسلمين في المغرب.

الإنجازات السياسية والعسكرية

من الناحية السياسية، استطاع إدريس بن عبد الله أن يؤسس كيانًا قويًا ومستقرًا في منطقة كانت تتسم بالاضطرابات والانقسامات القبلية. قام بتوحيد القبائل الأمازيغية المختلفة، واستطاع فرض النظام والقانون، مما أدى إلى تحقيق استقرار سياسي واقتصادي للمنطقة.

من الناحية العسكرية، قام إدريس بتشكيل قوة عسكرية قادرة على الدفاع عن دولته من أي تهديدات خارجية، ونجح في صد هجمات قوات العباسيين والقبائل المعادية. كما أن تحالفه مع بعض القبائل كان عاملًا أساسيًا في تعزيز مركزه وقوته.

وفاة إدريس بن عبد الله وتوريث الحكم

في عام 791 ميلادي (174 هـ) تعرض إدريس بن عبد الله لمحاولة اغتيال مدبرة من قبل العباسيين الذين رصدوا مكافأة لمن يقتله، بسبب الخوف من توسع نفوذه وقوته التي شكلت تهديدًا لحكمهم. وعلى الرغم من تلقيه إصابة قاتلة، إلا أنه تم نقله إلى مدينة فاس حيث توفي هناك.

بعد وفاته، خلفه في الحكم ابنه إدريس الثاني الذي استمر في توسيع الدولة الإدريسية وتنظيمها، وأكمل مسيرة والده في بناء الدولة المستقلة، وتأسيس مدينة فاس التي أصبحت عاصمة الدولة الإدريسية ومركزًا حضاريًا وثقافيًا مهمًا في المغرب.

الإرث التاريخي لإدريس بن عبد الله

ترك إدريس بن عبد الله إرثًا تاريخيًا عميقًا في المغرب والعالم الإسلامي بشكل عام، حيث شكل نقطة تحول في تاريخ المغرب من حيث توحيد القبائل، وتأسيس أول دولة إسلامية مستقلة في شمال أفريقيا، بعيدًا عن هيمنة الدولة العباسية.

الدولة الإدريسية التي أسسها كانت بداية لمسيرة بناء الدولة المغربية الحديثة، كما ساهمت في انتشار الإسلام وتعزيز الثقافة الإسلامية في المغرب، وكان لها تأثير كبير على الهوية الدينية والسياسية للمنطقة. لقد كان إدريس رمزًا للمقاومة ضد الاضطهاد، ورائدًا في تأسيس حكم ديني مستند إلى أهل البيت، مما جعله شخصية موقرة في التاريخ الإسلامي.

جدول يوضح أهم مراحل حياة إدريس بن عبد الله

الخلاصة

يمثل إدريس بن عبد الله نقطة مفصلية في التاريخ الإسلامي والمغربي، حيث أسس دولة قامت على مبادئ العدالة الإسلامية، وعلى قوة الانتماء إلى أهل البيت، مما جعل دولته تمثل نموذجًا فريدًا للقيادة الدينية والسياسية في شمال أفريقيا. لقد كان رمزًا للوحدة والمقاومة ضد الظلم والاضطهاد، ومؤسسًا حضاريًا صنع الأساس لدولة المغرب الحديث.

لا يمكن النظر إلى تاريخ المغرب الإسلامي دون الاعتراف بالدور المحوري الذي لعبه إدريس بن عبد الله، فقد شكّل بجهوده السياسية والدينية حجر الأساس الذي انطلقت منه دول المغرب في تاريخها الطويل، ليظل اسمه خالدًا في الذاكرة الوطنية والدينية للمغرب والعالم الإسلامي.

المصادر والمراجع

1. الموسوعة الإسلامية، دار الفكر العربي، الطبعة الثالثة، 2004.

2. عبد الرحمن بن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، تحقيق محمد عبد الله عنان، دار الكتب العلمية، 2003.