أولوية الفعل في معنى الحياة

الفعل لا المعرفة: الغاية العظمى من الحياة

في خضم الصراع الفكري والفلسفي الذي صاحب الإنسانية منذ أقدم العصور، تباينت الرؤى حول ماهية الغاية العظمى من الحياة، وتباينت المدارس الفكرية بين من رأى أن المعرفة هي المعيار الأعلى للوجود، وبين من رأى أن الفعل، أي التطبيق والممارسة والتحرك في الواقع، هو الجوهر الحقيقي. لكن حين يتمعن الإنسان في التاريخ البشري، وفي مسيرة الحضارات والأفراد على حد سواء، يتجلى بوضوح أن الفعل وليس المعرفة هو الغاية العظمى من الحياة. المعرفة دون فعل تبقى جماداً نظرياً لا يتحول إلى طاقة مؤثرة، بينما الفعل هو الذي يُحدث التغيير ويصنع الحياة، ويحول الإمكانيات إلى واقع ملموس.

هذا المقال يقدم رؤية معمقة وموسعة عن هذا الطرح، منطلقاً من الأسس الفلسفية، مروراً بالتحليل التاريخي والنفسي، وانتهاءً بأثر الفعل في تشكيل المعنى الإنساني. كما يتناول المسارات المختلفة التي تؤكد مركزية الفعل في وجود الإنسان ومجتمعه، مدعماً بالمفاهيم العلمية والسياقات الاجتماعية والثقافية التي تكرّس هذه الرؤية.

الفعل كجوهر للكينونة الإنسانية

الإنسان كائن فاعل قبل أن يكون عارفاً. منذ ولادته، يُقاس وجوده بفعله، لا بمدى ما يعرفه. الرضيع لا يعرف كثيراً، لكنه يبكي ليُعبر، يتحرك ليلفت الانتباه، يستكشف بيئته بحواسه. هذه النزعة نحو الفعل تنبع من الغريزة البيولوجية الأولى، من حاجة الإنسان إلى التفاعل مع محيطه. وحتى على الصعيد الفلسفي، فإن مدارس مثل البراغماتية تؤكد على أن المعرفة لا تُقاس بكونها صحيحة أو منطقية، بل بمدى نفعها وتأثيرها العملي.

المعرفة كوسيلة لا كغاية

المعرفة في ذاتها ليست هدفاً نهائياً، بل وسيلة لتحقيق الفعل. الطب، مثلاً، ليس مجرد تراكم معلومات عن الجسم البشري، بل غايته علاج المرضى. الهندسة لا تُقاس بنظريات البنية فقط، بل بقدرة المهندس على بناء الجسور والمباني. في هذا السياق، تصبح المعرفة عديمة القيمة إن لم تتحول إلى تطبيق. العالم الذي يعرف الكثير ولا يُطبّق ما يعرفه، يظل أسير دائرة مغلقة من التنظير. وحده من يُجسّد المعرفة في سلوك وعمل يُحدث أثراً في الحياة.

من منظور الفلسفة الغربية والشرقية

الفلسفة الغربية

في التراث الغربي، نجد في فكر الفيلسوف الألماني “كارل ماركس” تأكيداً حاسماً على مركزية الفعل. فقد رأى أن الفلاسفة عبر العصور اكتفوا بتفسير العالم، بينما الأهم هو تغييره. هذه الفكرة التي جاءت في “أطروحات حول فويرباخ” تعكس نظرة نقدية للفكر التأملي البحت، وتؤكد أن الفعل هو الذي يمنح الفكر معناه.

أما في الفكر الوجودي، خاصة لدى “سارتر”، فإن الحرية تكمن في الفعل. الإنسان حر لأنه يختار، ويتخذ مواقف، ويتحرك. المعرفة لا تكفي لتعريف الإنسان، بل أفعاله هي التي تُعبّر عنه. الوجود يسبق الجوهر، أي أن الإنسان يوجد أولاً، ثم يُعرّف نفسه بأفعاله لا بأفكاره.

الفلسفة الشرقية

في الفلسفة الصينية والبوذية، يتجلى نفس المعنى ولكن في إطار مختلف. “لاوتسه” مؤسس الطاوية يرى أن التوازن في الكون لا يتحقق إلا من خلال “الفعل اللاإرادي” أو “اللاعنف الفاعل”، أي أن الكون يعمل من تلقاء نفسه من خلال الحركات الطبيعية، وليس من خلال كثرة التأمل أو التحليل. كذلك، تؤكد البوذية على ممارسة “الطريق الثماني” كممارسة عملية، لا مجرد قناعة فكرية، للوصول إلى التنوير.

التاريخ يشهد: الفاعلون لا العارفون يصنعون الحضارات

الحضارات لم تُبنَ بفعل المعرفة وحدها، بل بالفعل المترتب عليها. الفراعنة لم يخلدوا أسماءهم بفضل معرفتهم بالمقاييس والمساحة، بل بفضل تطبيق هذه المعرفة في بناء الأهرامات. علماء الحضارة الإسلامية لم يُعرفوا فقط بكتاباتهم، بل بتأثيرهم التطبيقي في مجالات الطب، والفلك، والهندسة، والمعمار.

حتى الثورات الاجتماعية لم تتحرك من خلال الخطابات الفكرية فحسب، بل بفضل أفعال الناس، وتحركاتهم في الشوارع، وإصرارهم العملي على التغيير. هذه الديناميكية تُبرز الفعل كمحرك للتاريخ، وليس المعرفة وحدها.

الفعل في علم النفس والسلوك الإنساني

التحليل النفسي يؤكد أن الشخصية تتكون من خلال الأفعال والسلوكيات لا من خلال النوايا. السلوك المعرفي السلوكي (CBT) وهو أحد أنجح نماذج العلاج النفسي، يقوم على تغيير السلوك لتغيير المشاعر والأفكار، لا العكس. أي أن الفعل له القدرة على إعادة تشكيل الفكر والشعور.

كذلك في علم النفس الإيجابي، لا تكفي معرفة الشخص بأنه يمتلك مهارات أو إمكانيات، بل يجب عليه أن يُفعّلها من خلال ممارسة يومية ليشعر بالرضا والإنجاز. التحفيز لا يأتي من المعرفة، بل من التطبيق، من رؤية نتائج الجهد في الواقع.

العمل كمصدر للكرامة والهوية

العمل الفعلي هو أحد أعمدة الكرامة الإنسانية. ليس من قبيل المصادفة أن البطالة تُصنّف في العديد من الأدبيات النفسية والاجتماعية كأحد مصادر القلق والاكتئاب وفقدان المعنى. العمل ليس مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل هو وسيلة لترسيخ الهوية وتحقيق الذات.

الإنسان يُعرّف نفسه من خلال أفعاله: طبيب، معلم، مزارع، فنان، عامل… هذه ليست مجرد مسميات، بل انعكاسات للفعل الذي يمارسه الفرد. أما من يعرف كثيراً ولا يفعل شيئاً، فإنه يظل حبيساً في منطقة رمادية لا تمنحه الشعور بالتحقق.

الفرق بين الأثر والمعرفة المجردة

إن أعظم القيم التي تُقاس بها الحياة ليست كمية المعلومات التي جمعها الإنسان، بل الأثر الذي تركه في مجتمعه والبيئة من حوله. الأثر لا يأتي من مجرد المعرفة، بل من تحويل هذه المعرفة إلى عمل نافع، إلى تعليم، علاج، اختراع، إصلاح، إبداع فني، أو أي شكل من أشكال العطاء الإنساني.

الكتب التي تُقرأ دون تطبيق، تصبح جزءاً من الذاكرة المعرفية المؤقتة. أما الفعل فهو الذي يُخلد في السجلات، يُغيّر في النفوس، ويستمر في تأثيره عبر الأجيال. ولهذا نجد أن الشخصيات التي تُخلّد في التاريخ هي تلك التي مارست فعلاً عظيماً، لا تلك التي عرفت فقط.

أهمية الفعل في العصر الرقمي الحديث

مع التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أصبحت المعرفة متاحة بشكل غير مسبوق. يمكن لأي شخص الوصول إلى ملايين الكتب والدورات والمقالات في ثوانٍ. لكن هذا الكم الهائل من المعرفة لم يُترجم بالضرورة إلى فعل، لأن التحدي الأكبر أصبح القدرة على التنفيذ لا على الاطلاع.

من هنا تنبع أهمية تنمية مهارات “الفعل الرقمي”، مثل الإنتاج الرقمي، التطوير البرمجي، ريادة الأعمال عبر الإنترنت، التعليم الإلكتروني، وغيرها من المجالات التي تحوّل المعرفة إلى منتجات وخدمات ملموسة تؤثر في حياة الناس.

جدول مقارنة بين المعرفة والفعل

الفعل كمُحرّك للمجتمع والتاريخ

في المجتمعات النامية، تُعدّ أزمة “الفعل المؤجل” من أبرز العوائق أمام التقدم. الجميع يعرف، لكن قلة تبادر. الكل يُحلل، لكن القليل يُنفذ. هذه الفجوة بين المعرفة والفعل تُساهم في بقاء المجتمعات في حالة جمود. المجتمعات التي تتقدم، هي تلك التي تحتفي بالفعل، وتكافئ العاملين، وتُشجّع المبادرات لا التنظير.

وعلى مستوى التاريخ، لا تتغير المجتمعات بالنوايا، بل بالأفعال الجماعية، بالحركات الاجتماعية، بالمشاريع، بالاختراعات، بالإصلاحات القانونية، بالثورات الاقتصادية، وبكثير من الجهد المتراكم.

نحو فلسفة حياة قائمة على الفعل

تأسيس حياة ذات معنى لا يكتمل بالاطلاع فقط، بل يتطلب مساراً عملياً موازياً. هذا لا يعني إلغاء المعرفة، بل توظيفها كأداة للفعل. الفعل يمنح الحياة نبضها، يزرع التغيير في الحقول، ويشعل في العقل جذوة المعنى. ومن دون فعل، تصبح الحياة مجرد نظرية لا تُختبَر، ومسرحاً بلا أداء.

الفعل هو الذي يُخرج الإنسان من العزلة إلى التأثير، من التمني إلى الإنجاز، من الفكرة إلى الواقع. لهذا فإن بناء فلسفة حياتية على قاعدة الفعل لا المعرفة، يجعل الإنسان متصالحاً مع ذاته، وأكثر قدرة على تحقيق رسالته في الحياة.

الخلاصة

إن القيمة الحقيقية للحياة تكمن في الفعل الذي يحول المعرفة إلى طاقة خلاقة، وفي الحركة التي تجعل الأفكار تنبض على أرض الواقع. ما يخلد الإنسان ليس ما يعرفه فقط، بل ما يفعله بما يعرفه. من هذا المنطلق، يجب إعادة بناء منظومتنا الفكرية والاجتماعية حول مركزية الفعل، وتقدير كل خطوة تُترجم إلى أثر ملموس في حياة الفرد والمجتمع.

المراجع:

• Karl Marx. (1845). Theses on Feuerbach.

• Jean-Paul Sartre. (1943). Being and Nothingness.