أول من سعى بين الصفا والمروة

أول من سعى بين الصفا والمروة

إنّ السعي بين الصفا والمروة ركنٌ من أركان الحج والعمرة، وهو شعيرة قائمة على رمزية عميقة ذات صلة بالإيمان والتوكل، ترجع جذورها إلى قصة تاريخية خالدة ارتبطت بأم من أعظم الأمهات، وهي هاجر زوجة نبي الله إبراهيم عليه السلام وأم إسماعيل، أول من سعى بين الصفا والمروة، والتي خلد الإسلام موقفها هذا وجعل منه ركناً من أركان العبادة يُؤدى إلى يوم القيامة.

السياق التاريخي والبشري لقصة السعي

عندما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم عليه السلام أن يترك زوجه هاجر ورضيعها إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، لم يكن في هذا الوادي آنذاك أي مظهر من مظاهر الحياة. وامتثل إبراهيم للأمر الإلهي وتركهما في ذلك المكان اعتماداً على وعد الله. كانت هاجر تعلم أنها ليست وحدها، بل كانت في كنف الله وتحت رحمته، ولكن مشاعر الأمومة والخوف على رضيعها عطّلت كل الحسابات المنطقية وجعلتها تتحرك مدفوعة بغريزة البقاء، لتبحث عن الماء في تلك الأرض المقفرة.

موقع الصفا والمروة في تضاريس مكة القديمة

الصَّفا والمروة هما جبلان صغيران يقعان في المسجد الحرام بمكة المكرمة. يُعدّ جبل الصفا الأقرب إلى الكعبة المشرفة، بينما يقع جبل المروة شرق الصفا، ويمتد بينهما مسافة تُقدَّر بـ 394.5 متراً. كانت هذه المسافة في الزمن القديم وعرة وصعبة، وتنتشر فيها الحصى والرمال، مما يجعل سعي هاجر بين الجبلين فعلاً بطولياً مليئاً بالعاطفة والشجاعة.

تفاصيل مشهد السعي: هاجر كرمز للثقة بالله

كانت هاجر حينها تبحث عن الماء وهي تعلم أن لا أحد في الوادي، ولكن دفعها الأمل والتوكل، وركضت صاعدة جبل الصفا ثم نزلت إلى الوادي مسرعة إلى جبل المروة، وتكررت هذه العملية سبع مرات، ترقباً لأي إشارات تدل على وجود ماء أو إنسان قد ينقذها هي وطفلها من العطش والهلاك. لم تكن خطواتها عشوائية، بل كانت نابعة من إيمانٍ بأن الفرج قريب، وأن الله لا يضيع من لجأ إليه.

وكانت في كل مرة تصعد الجبل ترهف سمعها وتنظر في الأفق، وفي نزولها كانت تُسرع خشية أن يفقد ولدها وعيه أو يموت من العطش. وقد روى الإمام البخاري في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ قال: “فذهبت إلى الصفا، فصعدت عليه، ثم استقبلت الوادي، فجعلت تُسعى، حتى إذا بلغت المروة، فعلت مثل ذلك، حتى أتمت سبعاً. فقال النبي ﷺ: فذلك سعي الناس بينهما.”

السعي بين الصفا والمروة في الإسلام

عندما نزل الوحي على محمد ﷺ، وأُمر المسلمون بالحج والعمرة، أمرهم الله بأن يسعوا بين الصفا والمروة، تخليداً لهذا الموقف النبيل الذي أظهر توكلاً على الله منقطع النظير. وقد قال الله تعالى في سورة البقرة:

﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158].

وقد فهم العلماء أن هذه الآية جاءت لتؤكد أن السعي بين الصفا والمروة شعيرة من شعائر الله، ولا يجوز تركها في الحج أو العمرة. بل إن بعض الفقهاء يعتبرونها ركناً من أركان الحج لا يصح بدونه، كالشافعية والحنابلة.

البعد الرمزي في سعي هاجر

ما فعلته هاجر لم يكن مجرد بحث جسدي عن الماء، بل كان بحثاً عن الرحمة، عن الأمل، عن الاستجابة الإلهية. وفي ظل الواقع المظلم والموحش، لم تتردد لحظة في التحرك والسعي، رغم علمها المسبق بعدم وجود بشر أو ماء، لكنها علمت أن الحركة والسعي من الإنسان، وأن الرزق والإجابة من الله.

وهذا البعد الرمزي يربط الإنسان المؤمن بالله الذي عليه أن يسعى بكل طاقته ويطرق كل الأبواب، حتى وإن بدا أنها مغلقة، وأن لا يقعد مكتوف اليدين منتظراً الفرج دون جهد. فهاجر لم تجلس تبكي بجوار ابنها وتنتظر الموت، بل تحركت وسعت، فكان الجزاء الإلهي فورياً، إذ أرسل الله جبريل عليه السلام، وضرب الأرض بجناحه أو بعقبه، فتفجّر ماء زمزم من تحت قدمي إسماعيل.

بئر زمزم: استجابة السعي

حين انبثق ماء زمزم من تحت أقدام الرضيع إسماعيل، كانت تلك اللحظة تجلياً للرحمة الإلهية وللاستجابة العظيمة للسعي والتوكل. وقد جاءت الروايات بأن هاجر بدأت تُحيط الماء وتحاول حفظه، وقالت: “زمّي زمّي”، أي اجتمعي، فسُمي الماء “زمزم” من ذلك الوقت. وخلّد الله هذا المشهد ليكون ماؤه أطهر ماء على وجه الأرض، لا تنضب عينه، ويُشرب منه إلى يوم القيامة.

السعي بين الصفا والمروة في الشعائر الحديثة

في العصر الحالي، وعلى الرغم من التحسينات التي أُدخلت على المسعى لتيسير الحركة للحجاج والمعتمرين، فإن الشعور الذي يعتري كل من يؤدي هذه الشعيرة لا يزال مشبعاً بالرمزية والمهابة. فالناس يسعون بين الصفا والمروة كما سعت هاجر، يركضون في موضع السعي حيث ركضت، ويشعرون في لحظات التعب بالحافز الإيماني ذاته.

وقد تم توسعة المسعى في العهد السعودي الحديث مرات عديدة لتسهيل الحركة وتقليل التكدس، دون أن يُغيَّر من الجوهر أو الرمزية الأصلية للسعي. وهذا يُعد مثالاً على إمكانية الجمع بين أصالة العبادة وتحديث وسائل الأداء، دون إخلال بالمعاني الجوهرية.

الجدول الزمني الرمزي للسعي بين الجبلين

أثر قصة هاجر في الفكر الإسلامي

لقد أصبحت هاجر رمزاً لكل من يُبتلى، ولكل من يسعى دون أن يرى شيئاً في الأفق، لكنها استمرت تسعى بإصرار. وعلى مدار التاريخ، كانت قصتها دافعاً للمسلمين ليؤمنوا بأن الطريق إلى الله يمر عبر العمل، ولا يكفي فيه التمني أو الاتكال.

ولأن السعي كان مشهد صبر وشجاعة من امرأة واحدة، فإن الإسلام جعل منها شعيرة يتعبد بها ملايين الرجال والنساء في كل زمان. فرفعة المرأة في هذا الموضع تتجاوز الكثير من التصورات التاريخية عن الأدوار، وتثبت أن البطولة لا تُقاس بالجنس، بل بالفعل والموقف.

الأثر الروحي للسعي على الحاج والمعتمر

إن من يؤدي السعي بين الصفا والمروة لا يسير على أرض فحسب، بل يسير في قصة إنسانية خالدة تُذكّره بمعاني الحياة والإيمان. ويمتزج فيه الشعور بالإجلال مع التعب، والتاريخ مع الواقع، والصبر مع الرجاء. ولعل من أبرز المعاني التي يستحضرها:

• الصبر على البلاء: إذ أن هاجر صبرت على الفقر والعطش والبعد.

• العمل مع الدعاء: لم تنتظر المعجزة، بل سعت حتى جاءها الفرج.

• إكرام المرأة في الإسلام: إذ أن فعلها صار عبادة يؤديها الجميع.

• الإيمان بأن مع العسر يسراً: فقد أتى الفرج بعد أشد مراحل اليأس.

الخاتمة: إرث خالد في شعيرة خالدة

إن أول من سعى بين الصفا والمروة كانت امرأة، لكنها لم تكن امرأة عادية، بل كانت مؤمنة، صابرة، حكيمة، وشجاعة. سعيها لم يكن مجرد حركة جسدية، بل عبادة كاملة انبعثت من الإيمان، وتوَّجها الله بمعجزة مائية لا تزال تتدفق حتى اليوم. ومنذ ذلك اليوم، ارتبط السعي بهذا الإرث الإنساني العظيم، ليتحول من فعل فردي إلى شعيرة جماعية تربط أجيال المؤمنين بامرأة واحدة اسمها هاجر.

المصادر والمراجع:

• صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب: يزف الناس بعضهم بعضاً.

• ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تفسير سورة البقرة الآية 158.