منذ فجر التاريخ، حلم الإنسان بالتحليق في السماء ومجاراة الطيور في حريتها المطلقة، فكان الطيران فكرة تشغل عقول الفلاسفة والمخترعين والمغامرين على حد سواء. لم يكن حلم الطيران وليد العصر الحديث، بل تعود جذوره إلى أعماق التاريخ البشري، حيث سجّلت كتب التراث والأساطير والوثائق القديمة محاولات عديدة لسبر أغوار السماء، منها ما كان أسطورياً ومنها ما استند إلى محاولات علمية بدائية. في هذا المقال، نسلط الضوء على أول من حاول الطيران في التاريخ المسجّل، مع استعراض الخلفيات التاريخية والثقافية والتقنية التي أحاطت بهذه المحاولات الجريئة.
المحاولات الأسطورية للطيران في الحضارات القديمة
أولى الإشارات إلى الطيران جاءت في الأساطير القديمة، فقد تحدّثت الحضارة الإغريقية عن قصة إيكاروس ووالده ديدالوس اللذين هربا من جزيرة كريت باستخدام أجنحة مصنوعة من الريش والشمع. تمثل هذه القصة الخيال الجامح الذي سكن عقول البشر تجاه فكرة الطيران، لكنها أيضًا كانت تحذيرًا من مغبة تجاوز حدود الطبيعة.
في الثقافة الصينية القديمة، وُجدت إشارات إلى استخدام الطائرات الورقية التي تعود إلى أكثر من 2000 عام، وكانت تُستخدم لأغراض عسكرية وترفيهية، وأحيانًا لمراقبة العدو أو إرسال الإشارات. ومع أن هذه الأدوات لم تكن تحمل الإنسان فعليًا في السماء، إلا أنها كانت خطوة ذهنية وتقنية نحو تطوير مفهوم الطيران.
عباس بن فرناس: رائد الطيران في التاريخ الإسلامي
يُعتبر العالم والمخترع الأندلسي عباس بن فرناس (810-887م) أول من حاول الطيران بشكل علمي موثق، وهو أحد أعلام العصر الذهبي الإسلامي الذين جمعوا بين الفلك والهندسة والميكانيكا. وُلد بن فرناس في مدينة رندة بالأندلس، وبرز كمخترع وفلكي وشاعر وفيلسوف.
في أواخر حياته، قام بمحاولة جريئة للطيران عبر تصميم جهاز يشبه الأجنحة، مصنوع من الريش والخشب والحرير، وهو ما يشير إلى فهمه الميكانيكي البدائي لطبيعة الطيران. ألقى بنفسه من مكان مرتفع — يُعتقد أنه من جبل في منطقة قريبة من قرطبة — ونجح في الطيران لمسافة قصيرة قبل أن يسقط ويكسر فقرات في ظهره. وقد أرجع فشله في الهبوط الآمن إلى عدم تضمينه ذيلًا يساعد على التوازن أثناء الهبوط، وهو ما يدل على دقة ملاحظته وتحليله لما حدث.
محاولة عباس بن فرناس لم تكن عبثية أو خرافية، بل كانت تجربة علمية حقيقية مبنية على ملاحظات فيزيائية، ويمكن اعتبارها اللبنة الأولى في تاريخ الطيران التجريبي. وقد أثرت محاولته على المخيلة الأوروبية والشرقية، وذكرت مصادر عديدة أنه كان له تأثير غير مباشر على مفكرين لاحقين مثل ليوناردو دافنشي.
تأثير محاولات الطيران الإسلامية على أوروبا
انتقلت معارف العرب في الطب والفلك والهندسة إلى أوروبا عبر الترجمة والتفاعل الحضاري، خاصة خلال الحروب الصليبية وسقوط الأندلس. وهناك أدلة على أن التجربة الفريدة التي قام بها بن فرناس أُعيدت صياغتها في مخطوطات أوروبية لاحقة، حيث تشير بعض الكتابات إلى “رجل عربي طار فوق قرطبة”، ما يدل على أن هذه التجربة لم تمر مرور الكرام.
يُعتقد أن المفكر الإيطالي ليوناردو دافنشي (1452-1519) تأثر، ولو جزئياً، بهذه المحاولات السابقة، إذ كرّس جزءاً من حياته لدراسة الطيران، وابتكر تصاميم لأجهزة طيران شبيهة جدًا بما حاول بن فرناس تنفيذه، منها “آلة الطيران ذات الأجنحة” و”المروحية العمودية”.
محاولات أخرى في التاريخ الإسلامي والشرقي
لم يكن عباس بن فرناس الوحيد في العالم الإسلامي الذي سعى للطيران. فقد وردت بعض الروايات عن محاولات قام بها أشخاص آخرون، مثل العالم التركي هزارفن أحمد تشلبي في القرن السابع عشر، الذي يُقال إنه طار عبر مضيق البوسفور من برج غلطة إلى الجانب الآسيوي من إسطنبول مستخدمًا أجنحة صناعية، وقد اعتُبرت هذه التجربة من أوائل المحاولات الناجحة في الطيران لمسافات طويلة.
كما سُجّلت في التراث الصيني بعض الإشارات إلى تجارب قام بها رهبان ومخترعون صينيون خلال سلالات سونغ ومينغ، حيث استخدموا أجهزة بدائية أشبه بالمظلات والأجنحة الخفيفة في محاولات محدودة للتحليق.
مقارنة بين محاولات الطيران الأولى والحديثة
| العنصر | محاولات الطيران القديمة | الطيران الحديث |
|---|---|---|
| المواد المستخدمة | الخشب، الريش، القماش، الشمع | الألومنيوم، التيتانيوم، الألياف الكربونية |
| طريقة التحكم | عبر الأجنحة فقط بدون توجيه واضح | أنظمة تحكم إلكترونية وهيدروليكية متطورة |
| الأمان | معدوم تقريبًا | مدعوم بأنظمة أمان ومعايير دولية |
| الهدف | تجربة ومغامرة علمية | التنقل، السياحة، النقل، الدفاع |
| المعرفة العلمية | ملاحظات وتجريب | مبنية على ديناميكا الهواء والرياضيات والهندسة |
الإرث العلمي والثقافي لمحاولات الطيران الأولى
ما يجعل هذه المحاولات البدائية مدهشة هو أنها وقعت في زمن لم تكن فيه الأدوات ولا النظريات العلمية ناضجة كما هي اليوم، ورغم ذلك تميزت تلك المحاولات بالجرأة والإبداع. إن محاولة عباس بن فرناس، ومحاولات غيره من الرواد، تمثل خطوات أولى في طريق طويل امتد عبر القرون وصولًا إلى اختراع الطائرات بمحركات، ومن ثم الطيران النفاث، فالطيران الفضائي.
وقد أصبحت هذه التجارب جزءًا من التراث الثقافي والعلمي العالمي، يُدرّس بعضها في الجامعات كمقدمات في تاريخ الطيران، وتُستحضر دائمًا في الاحتفاء بالإبداع الإنساني.
في القرن العشرين، تحققت أحلام الطيران بالكامل مع إخوة رايت في الولايات المتحدة عام 1903، حيث تمكنوا من تنفيذ أول رحلة طيران بمحرك في التاريخ. ولكن لا يمكن فهم هذا الإنجاز بمعزل عن المحاولات السابقة التي عبّدت الطريق، وزرعت الإلهام في نفوس الطامحين للسماء.
خاتمة تاريخية
الطيران لم يكن مجرّد إنجاز تقني أو وسيلة نقل، بل هو انعكاس لطموح الإنسان الأزلي في تحدي قوانين الطبيعة والارتقاء نحو عوالم جديدة. ومن هذا المنطلق، فإن أول من حاول الطيران لم يضع فقط أساسات علم الديناميكا الهوائية، بل ساهم في تغيير نظرة الإنسان إلى حدوده وقدراته. لقد كان عباس بن فرناس، ورجال مثل إيكاروس في الخيال، وأحمد تشلبي في الواقع، تجسيداً لهذه الروح التواقة إلى الحرية والمجهول.
المراجع
-
محمد عصفور، العبقريات الإسلامية، دار الفكر، بيروت، 2003.
-
عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 1992.
-
Encyclopedia Britannica, “Abbas Ibn Firnas”, britannica.com.
-
Clive Hart, The Prehistory of Flight, University of California Press, 1985.
-
Ahmad Y. al-Hassan, Science and Technology in Islam, UNESCO Publishing, 2001.
