أول شهيدة في الإسلام

أول شهيد في الإسلام

تُعدّ الشهادة في سبيل الله من أعلى المراتب التي يمكن أن ينالها المسلم، وهي درجة عظيمة يكرم الله بها عباده الصادقين الذين قدّموا أرواحهم دفاعاً عن دينهم وعقيدتهم. ومن بين الأسماء التي خلدها التاريخ الإسلامي بأحرف من نور، تبرز شخصية سامية من النساء المؤمنات، هي سمية بنت خياط رضي الله عنها، التي تعتبر أول شهيدة في الإسلام. إن قصتها ليست مجرد رواية تاريخية بل هي رمز خالد للتضحية والثبات والإيمان العميق، لا سيما في زمن اشتد فيه الظلم على المسلمين الأوائل بمكة.

السياق التاريخي لظهور الشهداء الأوائل في الإسلام

في السنوات الأولى لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واجه المسلمون الأوائل شتى أنواع الاضطهاد والتعذيب من قريش، خاصةً من كان منهم ضعيفاً لا عشيرة تحميه. لم يكن الإسلام في بدايته يشكل تهديداً سياسياً حقيقياً لقريش، لكنه مثل تهديداً ثقافياً ودينياً لمنظومتها القبلية الوثنية. وبالتالي، لجأ مشركو مكة إلى الضغط على أتباع النبي الجدد بوسائل متعددة: السجن، الجلد، الحرمان، والتعذيب الجسدي والمعنوي.

من بين هذه الفئة من المستضعفين، برزت عائلة ياسر، التي تتكون من ياسر بن عامر، وزوجته سمية بنت خياط، وابنهما عمار بن ياسر، وكلهم من أوائل من أسلموا. لم يكن لهم ظهر قوي بين بطون قريش، ولهذا تعرضوا لتعذيب شديد استمر طويلاً.

سمية بنت خياط: أول شهيدة

نسبها وإسلامها

سمية بنت خياط كانت أمةً لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، أعتقها فتزوجها ياسر بن عامر العنسي، وكان من اليمن وجاء إلى مكة طلباً للحماية. أسلمت سمية في وقت مبكر جداً، وقيل إنها كانت من السابعين الأوائل الذين دخلوا الإسلام، بل يُروى أنها أسلمت قبل دخول دار الأرقم، أي في الأيام الأولى جداً من الدعوة السرية.

إسلامها كان إيمانًا داخليًا صادقًا، لم تبغِ من ورائه مكسبًا دنيويًا ولا حماية من أحد، وهو ما جعلها عرضة لأشد أنواع البطش من قبل قريش، خاصة من سيدها السابق “أبو جهل”، الذي كان يرى في إسلام هذه الأمة تحديًا سافراً لنظام الجاهلية وتقاليدها.

تعذيبها واستشهادها

من أكثر المشاهد المؤلمة في تاريخ الدعوة الإسلامية المبكرة، مشهد تعذيب آل ياسر. كانت قريش تخرجهم إلى رمضاء مكة في عز الظهيرة، تصب عليهم الحجارة، وتربطهم بالسلاسل، وتجبرهم على نبذ دين محمد صلى الله عليه وسلم، لكنهم ثبتوا.

كانت سمية تُعذّب وهي ثابتة كالطود، لا تضعف ولا تتراجع. ظل النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم ويقول كلمات خالدة: “صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة”.

تذكر كتب السير أن أبا جهل قد طعنها بحربة في موضع عفتها، وكانت وقتها عجوزًا طاعنة في السن، لكنه فعل فعلته الدنيئة بعد أن لم يجد في قلبها ضعفًا أو تراجعًا عن دينها. وماتت سمية في ذلك الموقف، لتكون بذلك أول من استشهد في الإسلام.

تحليل موقفها من حيث الإيمان والثبات

إن استشهاد سمية بنت خياط رضي الله عنها لم يكن حادثة عرضية، بل هو نتاج إيمان عميق لا تزعزعه الشدائد. الثبات الذي أظهرته في وجه أبي جهل، رمز الكفر والعنف، يدل على أن الإيمان الحقيقي ليس مجرد شعور داخلي، بل ممارسة حقيقية تتجلى في أصعب اللحظات.

في تلك الحقبة، كان الموت في سبيل العقيدة أمرًا مروّعًا. لم تكن الشهادة محط طموح دنيوي أو شعور بالبطولة، بل كانت تضحية صادقة تعبّر عن صدق الانتماء لهذا الدين الجديد. وقد استطاعت سمية أن تضرب أروع مثال على ذلك.

دور المرأة في نصرة الإسلام في المرحلة المكية

تشير قصة سمية إلى حقيقة مهمة يغفل عنها البعض، وهي أن المرأة كانت في صلب الحراك الدعوي الإسلامي منذ بدايته. لم تكن مجرد تابعٍ أو مشاهدٍ للأحداث، بل كانت فاعلاً أساسياً في صناعة التاريخ الإسلامي. إن موقف سمية يثبت أن التضحيات لم تقتصر على الرجال، بل شاركت النساء في صنع المجد الإيماني من أول لحظة.

وقد فتحت سمية الباب أمام نساء كثيرات في صدر الإسلام، لم يهبن الموت ولا السجن ولا العذاب، في سبيل تمسكهن بالإسلام، مثل أم عمار وأسماء بنت أبي بكر، وأم سلمة، وغيرهن الكثير.

أثر استشهاد سمية في الوجدان الإسلامي

استشهاد سمية لم يكن مجرد حدث، بل أصبح رمزاً باقياً في الذاكرة الإسلامية لكل من يبحث عن الصبر والثبات. وظل هذا النموذج حاضرًا في خطب العلماء، وأحاديث الدعاة، وكتب السيرة، كمثال حيّ على الصبر والثبات في مواجهة الظلم.

وقد كان لاستشهادها أثر عظيم في نفوس الصحابة، وخاصة عمار بن ياسر ابنها، الذي استمر في حمل شعلة الإسلام، رغم تعرضه للتعذيب نفسه. ولما أجبر على النطق بكلمات الكفر تحت العذاب، نزل قوله تعالى:

﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]، فدلّ على عظمة موقف هذه الأسرة كاملة.

الجدول الزمني لتسلسل الأحداث حول استشهاد سمية

مكانة سمية في التراث الإسلامي

حظيت سمية بمكانة عظيمة في كتب التاريخ الإسلامي، فقد روى المؤرخون والفقهاء والوعاظ قصتها كنموذج يُحتذى به في الصبر على البلاء والثبات على المبدأ. ومن أبرز من أشار إليها:

• ابن إسحاق في السيرة النبوية

• ابن هشام

• الطبري في تاريخه

• الذهبي في سير أعلام النبلاء

وتناقلت الأجيال اسمها باعتزاز كبير، فهي تمثل أول دم أُهريق في سبيل نشر دين الله في الأرض. وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليها مرارًا، ودعا لآل ياسر بالجنة.

الخاتمة التأريخية

إن شخصية سمية بنت خياط، أول شهيدة في الإسلام، تبقى علامة فارقة في سجل الشهادة والصبر في سبيل العقيدة. لم تكن امرأة عادية، بل كانت أول امرأة كتبت اسمها بدمها في سجل المخلصين لدين الله. استشهادها فتح الباب لتاريخ طويل من الصبر والبطولة في صفوف المسلمين، رجالًا ونساءً، وأصبح قصة تروى في المحافل، تُلهب الحماس وتغذي الإيمان.

لقد علمتنا سمية معنى الشهادة الحقّة، وثبتت لنا أن العقيدة أثمن من الحياة، وأن المرأة المسلمة قادرة على أن تكون في الصفوف الأولى للدفاع عن الدين، بالثبات إن لم يكن بالسيف. فسلام عليها يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تُبعث حية.

المراجع:

• ابن هشام، السيرة النبوية

• الطبري، تاريخ الأمم والملوك