متى منحت أول جائزة نوبل للسلام: تأريخ لأحد أعظم الأوسمة في تاريخ الإنسانية

المقدمة

تعد جائزة نوبل للسلام واحدة من أكثر الجوائز شهرة واحترامًا على مستوى العالم، وتُمنح تقديرًا للجهود البارزة في إحلال السلام والتقريب بين الشعوب وتعزيز القيم الإنسانية العليا. إن السؤال حول متى منحت أول جائزة نوبل للسلام ليس مجرد تساؤل زمني، بل هو استكشاف للبداية الرمزية لمسار طويل من تكريم صناع السلام في العالم، في وقت كان السلام فيه مطلبًا إنسانيًا نادرًا في ظل الحروب والصراعات التي عصفت بالعالم في القرنين التاسع عشر والعشرين.

أصول جائزة نوبل للسلام

ترجع جذور جائزة نوبل إلى وصية ألفريد نوبل، العالم السويدي الشهير الذي ابتكر الديناميت، والذي خصص ثروته الضخمة لتمويل جوائز تُمنح لمن يقدمون للبشرية أعظم الفوائد في مجالات متعددة. في وصيته التي صيغت عام 1895، حدد نوبل خمسة مجالات لتُمنح فيها الجوائز: الفيزياء، الكيمياء، الطب، الأدب، والسلام. وقد كان إدراج “السلام” ملفتًا بشكل خاص بالنظر إلى أن نوبل نفسه كان مخترعًا لسلاح مدمر.

أعرب ألفريد نوبل في وصيته عن رغبته في أن تُمنح جائزة السلام لأولئك الذين “قاموا بأكبر أو أفضل عمل من أجل الأخوة بين الأمم، وإلغاء أو تقليص الجيوش القائمة، وعقد المؤتمرات من أجل السلام”. وطلب أن تُمنح هذه الجائزة من قبل لجنة من خمسة أشخاص يتم اختيارهم من قبل البرلمان النرويجي (Stortinget)، ما جعلها الجائزة الوحيدة من جوائز نوبل التي تُمنح خارج السويد.

أول جائزة نوبل للسلام: عام 1901

في عام 1901، تم منح أول جائزة نوبل للسلام، وكانت تلك اللحظة بداية لحقبة جديدة في الاعتراف الدولي بالجهود الإنسانية. تقاسم الجائزة رجلان بارزان هما:

• فريدريك باس (Frédéric Passy)، اقتصادي فرنسي ومؤسس “الاتحاد البرلماني الدولي”، وأحد أبرز الداعين للسلام في أوروبا.

• هنري دونان (Henry Dunant)، رجل أعمال وإنساني سويسري، ومؤسس “اللجنة الدولية للصليب الأحمر”، والملهم الرئيسي لاتفاقيات جنيف.

هذا التتويج الأول لم يكن حدثًا عابرًا بل كان إيذانًا ببدء مسار طويل من التقدير الدولي للجهود السلمية في عالم مليء بالتحديات.

الشخصيات المكرّمة: خلفيات وأدوار

هنري دونان: إنساني فوق العادة

ولد هنري دونان في جنيف بسويسرا عام 1828، وكان شاهدًا على واحدة من أفظع معارك القرن التاسع عشر، معركة سولفرينو في عام 1859، بين الجيش الفرنسي-السرديني والإمبراطورية النمساوية. ما رآه من معاناة إنسانية وجثث متناثرة وجرحى يتألمون بلا إسعاف جعله يكرس حياته لإنشاء منظمة تُعنى بالإغاثة الإنسانية في الحروب. كانت فكرته الجوهرية هي ضرورة توفير حماية للمصابين بغض النظر عن طرف النزاع، وقد أدت جهوده إلى إنشاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1863، ووقعت الدول الأوروبية على أول اتفاقية جنيف في عام 1864.

فريدريك باس: منبر السلام من قلب السياسة

ولد فريدريك باس في باريس عام 1822، وكان رجلًا مؤمنًا بأن السلام يمكن تحقيقه من خلال الحوار السياسي والتعاون البرلماني. أسس مع البريطاني ويليام راندال كريمر “الاتحاد البرلماني الدولي” في عام 1889، الذي جمع نوابًا من مختلف البلدان لمناقشة قضايا السلام ونزع السلاح. وكانت هذه المبادرة فريدة من نوعها في وقت كانت فيه الدول تعتمد على القوة العسكرية والهيمنة الاستعمارية لحل النزاعات. باس كان يرى أن الديمقراطية البرلمانية والشفافية هي أساس بناء مجتمع سلمي عالمي.

الجائزة والبيئة الجيوسياسية في بداية القرن العشرين

عندما منحت جائزة نوبل للسلام لأول مرة في عام 1901، كانت أوروبا تمر بفترة مضطربة تتسم بالتحولات الصناعية، وصعود الإمبراطوريات، والتنافس العسكري بين القوى الكبرى. شهد القرن التاسع عشر حروبًا طاحنة كالحروب النابليونية، وحرب القرم، والحرب الفرنسية-البروسية. وكان السلام حلمًا لا يزال بعيد المنال، ما جعل أي جهد إنساني من أجل نزع السلاح أو الحياد أو الرعاية الصحية في الحروب، يكتسب أهمية مضاعفة.

إن منح الجائزة لأولئك الذين أسسوا بنيانًا مؤسساتيًا للسلام، وليس لمن شاركوا في إنهاء نزاع معين، يعكس فلسفة نوبل العميقة في أن السلام ليس لحظة، بل نظام يتم بناؤه وتثبيته عبر العمل الدؤوب والمؤسسات.

تطور جائزة نوبل للسلام بعد 1901

منذ منح الجائزة لأول مرة، استمرت لجنة نوبل النرويجية في منح الجائزة سنويًا تقريبًا، باستثناء بعض السنوات التي توقفت فيها بسبب الحروب العالمية أو لعدم وجود مرشحين ملائمين. وعلى مدى أكثر من قرن، تم منح الجائزة لمجموعة متنوعة من الأفراد والمنظمات، بمن فيهم رؤساء دول، حركات تحرر، مفكرين، منظمات إغاثية، ونشطاء بيئيين.

وقد شملت الأسماء المكرّمة شخصيات بارزة مثل:

• مارتن لوثر كينغ الابن (1964): قائد حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.

• نيلسون مانديلا وفريدريك دي كليرك (1993): لإنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

• مياو كي وملالا يوسفزي (2014): لنشاطهما في حقوق التعليم وحقوق الأطفال.

وفي كل حالة، جسدت الجائزة التزامًا راسخًا بالتنوع في أساليب تحقيق السلام: سواء عبر الكفاح المسلح المشروع من أجل التحرر الوطني، أو عبر الحوار والتفاوض، أو من خلال العمل الإنساني والتعليمي.

المعايير والمؤسسات المانحة للجائزة

رغم أن الجوائز العلمية تمنحها الأكاديميات السويدية، فإن جائزة نوبل للسلام تُمنح من قبل لجنة نرويجية مستقلة يتم اختيار أعضائها من قبل البرلمان النرويجي. تتكون اللجنة عادة من خمسة أعضاء يتمتعون بسمعة سياسية وأكاديمية وإنسانية.

وتتبع اللجنة معايير صارمة في عملية اختيار الفائزين. من أهم هذه المعايير:

• أن يكون المرشح قد قدم إنجازًا فعليًا في مجال السلام وليس مجرد نوايا.

• أن تكون أعماله ذات أثر دولي.

• أن يكون نشاطه مستمرًا ومرتبطًا بقضايا معاصرة.

• أن تتماشى أفعاله مع مبادئ نوبل المعلنة في وصيته.

نقد وتحديات واجهت الجائزة

رغم أهمية الجائزة، إلا أنها لم تكن خالية من الجدل. فقد تعرضت لبعض الانتقادات في حالات اعتبرها البعض منحازة سياسيًا، أو أنها منحت لأشخاص لم يُثبتوا جديتهم في مجال السلام على المدى الطويل. ومن أبرز الأمثلة:

• جائزة 1973 التي منحت لكل من هنري كيسنجر ولي دوك ثو بعد مفاوضات إنهاء حرب فيتنام، والتي قوبلت بانتقادات واسعة.

• جائزة 2009 للرئيس الأمريكي باراك أوباما بعد أشهر قليلة من توليه منصبه، ما أثار جدلاً حول استحقاقه للجائزة في ذلك الوقت.

لكن هذه الحالات تبقى استثناءً في تاريخ طويل من الاعتراف الحقيقي بالجهود السلمية ذات الأثر العميق والمستدام.

الأثر الثقافي والرمزي للجائزة

لا تكمن أهمية جائزة نوبل للسلام فقط في المبلغ المالي المصاحب لها، بل في رمزيتها العالمية، إذ أصبحت مرادفًا للجهود النبيلة التي تتجاوز الحدود والاختلافات من أجل تحقيق مصلحة الإنسانية جمعاء. وقد أثرت الجائزة بشكل مباشر في:

• تشجيع المبادرات الإنسانية، حيث بات العديد من الأفراد والمنظمات يسعون لتعزيز أثرهم عبر تبني رؤى عالمية ترتبط بالقيم النبيلة.

• إضفاء شرعية دولية على بعض الحركات التحررية أو المبادرات المجتمعية التي كانت مهمّشة سياسيًا.

• تسليط الضوء الإعلامي على قضايا منسية مثل الإبادة الجماعية، والفقر، والتعليم، والبيئة، وغيرها.

جدول زمني لأبرز الفائزين بجائزة نوبل للسلام بعد 1901

الخاتمة

إن منح أول جائزة نوبل للسلام في عام 1901 شكّل نقطة تحول فارقة في تاريخ التكريم العالمي للجهود الإنسانية. فقد أضفت هذه الجائزة بُعدًا أخلاقيًا على مسألة السلام، ونقلت الصراع من ميدان السلاح إلى ميدان القيم، ومن ميادين الحروب إلى صروح الحوار والتفاهم. بقيت جائزة نوبل للسلام، منذ تلك اللحظة الرمزية، نبراسًا يضيء درب الباحثين عن التغيير الإيجابي في عالم تكتنفه التحديات. وبينما يتغير العالم بتقلباته السياسية والاقتصادية، تظل الجائزة شاهدًا على أن السلام ممكن حين يتسلح الإنسان بالإرادة، والمعرفة، والضمير.

المراجع:

1. Nobel Prize official site – https://www.nobelprize.org

2. Red Cross Archives – International Committee of the Red Cross (ICRC)