بر الأم في الإسلام: أعظم القربات وأسمى الواجبات

مقدمة

بر الأم من أعظم القربات وأجل الطاعات التي أمر بها الإسلام واعتنى بها القرآن والسنة النبوية عناية بالغة، فهو حق متأكد لا يسقط عن الإنسان مهما بلغ من المراتب أو تقدم في السن. وقد ربط الله -عز وجل- رضاه برضا الوالدين، وجعل بر الأم على وجه الخصوص بابًا من أبواب الجنة، ومن أعظم أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة. إن الأم هي مصدر الحنان والرعاية، وهي التي حملت ولدها وهنا على وهن، وسهرت الليالي وضحت براحتها وسعادتها من أجل أبنائها، ولذا كان البر بها فريضة دينية وضرورة اجتماعية وأخلاقية.

أهمية بر الأم في الإسلام

بر الأم له منزلة عظيمة في الإسلام تفوق غيرها من صور البر والعلاقات الاجتماعية. فقد قدم الإسلام بر الأم على بر الأب، لما تتحمله الأم من مشاق الحمل والولادة والرضاعة والتربية، ولما تبذله من جهد بدني ونفسي في سبيل تنشئة الأبناء. قال تعالى:

“وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ” [لقمان: 14].

وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟ قال: “الصلاة على وقتها”، قلت: ثم أي؟ قال: “بر الوالدين”، قلت: ثم أي؟ قال: “الجهاد في سبيل الله”. [رواه البخاري ومسلم].

وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم الأم بمزيد من البر والتكريم حين سأله رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال: “ثم أبوك”. [رواه البخاري ومسلم].

صور بر الأم في الإسلام

بر الأم لا يقتصر على مجرد الأقوال، بل يتجلى في الأفعال والسلوكيات اليومية، ويشمل أبعادًا مادية ومعنوية تعكس مدى الاحترام والتقدير والرحمة التي يكنها الابن لأمه. ومن صور بر الأم في الإسلام:

1. طاعتها في المعروف

من أعظم صور بر الأم طاعتها في كل ما تأمر به، ما دام ذلك في حدود المعروف والشرع. فالابن مطالب بالاستجابة لرغبات أمه وتلبية طلباتها المشروعة، وتقديمها على نفسه في كثير من الأحيان.

2. التلطف في الكلام وحسن المعاملة

قال تعالى:

“فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا” [الإسراء: 23].

من أرقى مراتب البر أن يخاطب الابن أمه بلطف واحترام، وأن يتجنب كل ما يوحي بالجفاء أو القسوة كرفع الصوت أو الغضب أمامها.

3. خدمتها ورعايتها خاصة عند الكبر

مع تقدم الأم في السن، تزداد حاجتها إلى الرعاية الجسدية والنفسية، ويصبح من واجب الابن أن يقوم على خدمتها بنفسه أو أن يوفر لها من يقوم بذلك بأفضل شكل ممكن.

4. الإنفاق عليها

إذا كانت الأم بحاجة إلى المال أو المساعدة المادية، فإن من أوجب الواجبات على الابن أن ينفق عليها ويؤمن لها حاجياتها المعيشية دون من أو أذى، بل بسخاء ومحبة.

5. إدخال السرور عليها

من صور بر الأم أن يسعى الابن إلى إرضائها وإدخال الفرح على قلبها من خلال الزيارات والهدايا والكلمات الطيبة والمفاجآت السارة.

6. الدعاء لها

الدعاء للوالدين من أهم وجوه البر، سواء في حياتهما أو بعد وفاتهما، قال تعالى:

“وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” [الإسراء: 24].

فدعاء الابن لأمه بالرحمة والمغفرة له أثر عظيم في نيل رضا الله وإعلاء درجاتها في الآخرة.

7. الصبر على تصرفاتها

قد تمر الأم بمراحل من الضعف أو المرض تؤثر على تصرفاتها وأقوالها، ومن برها الصبر عليها وتحمّل ما يصدر منها دون ضجر أو نفور.

8. احترامها أمام الآخرين

من صور بر الأم أن يُظهر الابن احترامه لها أمام الآخرين، وأن يحرص على مدحها والدفاع عنها والاعتزاز بها في جميع المجالس.

عقوبة عقوق الأم في الإسلام

عقوق الأم من كبائر الذنوب التي توعد الله عليها بالعقاب الشديد. فقد جاء في الحديث:

“ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟” قلنا: بلى يا رسول الله، قال: “الإشراك بالله وعقوق الوالدين” [رواه البخاري].

وعاق الأم معرض لسخط الله وسوء الخاتمة وضيق العيش في الدنيا والآخرة، فالله جعل عقوق الوالدين قرينًا للشرك بالله لشدة قبحه وفظاعته.

بر الأم بعد وفاتها

لا ينتهي بر الأم بوفاتها، بل يستمر حتى بعد رحيلها عن الدنيا. ومن صور بر الأم بعد وفاتها:

• الدعاء لها بالرحمة والمغفرة.

• الاستغفار لها بشكل دائم.

• التصدق عنها.

• صلة أرحامها وأصدقائها.

• قضاء ديونها وصيام ما فاتها إن أوصت بذلك.

• تنفيذ وصاياها التي أوصت بها في حياتها.

قال النبي صلى الله عليه وسلم:

“إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له” [رواه مسلم].

أثر بر الأم في حياة الإنسان

بر الأم له تأثير بالغ في حياة الإنسان من حيث السعادة والتوفيق والنجاح، وهو سبب رئيسي في بركة العمر وسعة الرزق واستجابة الدعاء. فالذي يبر أمه يجد في حياته توفيقًا إلهيًا لا يحصى، ويحظى بدعوات صادقة تفتح له أبواب الخير.

ومن الأمثلة المشهورة قصة أويس القرني، الذي بلغ من بره بأمه أن أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم به، وأخبر أن دعوته مستجابة. وهذا دليل قاطع على أن بر الأم يرفع الإنسان إلى أرفع الدرجات.

بر الأم في المجتمعات وأثره على النسيج الاجتماعي

حين يكون بر الأم ثقافة متجذرة في المجتمع، تنشأ أجيال تعرف قيمة الأم وتتفانى في خدمتها، مما يخلق بيئة يسودها الرحمة والتراحم. المجتمعات التي يكثر فيها العقوق تعاني من تفكك اجتماعي وتفشي القسوة وجفاء المشاعر، بينما المجتمعات التي يترسخ فيها بر الأم تعيش في أمان نفسي واستقرار أسري.

نماذج من بر الصحابة بأمهاتهم

بر عبد الله بن عمر رضي الله عنه بأمه

كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه من أعظم الناس برًا بوالديه، وكان إذا سافر حرص على ألا يركب دابته إلا بعد أن يركب والداه، وإذا نزل لا ينزل حتى ينزلا، وإذا جلس لا يجلس حتى يجلسا، وكان يحرص على أن ينفق عليهما بسخاء.

بر أويس القرني بأمه

أويس القرني ترك الجهاد مع الصحابة لأجل أمه، فكان يلازمها ويخدمها، وكان من شدة بره بها سببًا في أن يستجاب له الدعاء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أويس مثالاً حياً على أن بر الأم يفوق كل القربات.

بر الحسن البصري بأمه

كان الحسن البصري رضي الله عنه بارًا بأمه إلى درجة أنه كان يتمنى أن يبقى خادمًا لها طوال حياته، وكان يحزن إن وجد غيره يقوم بخدمتها.

الفرق بين بر الأم وبر الأب

بر الوالدين أمر واجب في الإسلام، لكن الشريعة قدمت الأم في البر ثلاث مرات على الأب، كما ورد في الحديث الشريف. فالأم تتعرض لمشاق الحمل والولادة والرضاعة، وتحمل مشاعر مضاعفة من القلق والخوف على أبنائها، وتبذل من وقتها وجهدها الكثير في سبيل تربيتهم، ولذلك كان لها النصيب الأكبر من البر. أما الأب فله مكانته الكبيرة أيضًا، لكنه يأتي بعد الأم في أولوية البر كما ورد في الأحاديث النبوية.

جدول يوضح مظاهر بر الأم ووسائل تحقيقها

الخاتمة

بر الأم ليس مجرد سلوك عا