أهمية نعمة الماء: سر الحياة وجوهر الوجود

تُعدّ نعمة الماء من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان وسائر المخلوقات، فهي أصل الحياة وجوهر استمرارها، وبدونها لا يمكن للكائنات الحية أن تعيش أو تستمر في هذا الكوكب. الماء ليس مجرد مركّب كيميائي يتكوّن من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين (H₂O)، بل هو شريان الحياة، وركيزة أساسية في كافة نواحي الوجود البشري والبيئي. تظهر أهمية الماء في كل شيء من حولنا، من تكوين جسم الإنسان، إلى الزراعة، إلى الصناعة، إلى التوازن البيئي، وحتى إلى العبادة والتطهر في الديانات السماوية.

الماء في التكوين البيولوجي والوظائف الحيوية للإنسان

يُشكّل الماء ما يقارب 60% من وزن جسم الإنسان، وتختلف هذه النسبة من عضو إلى آخر، حيث تصل إلى أكثر من 70% في الدماغ والقلب، وتفوق 80% في الكليتين والرئتين. هذا التركيب المائي الحيوي يوضح أن الماء ليس مكونًا خارجيًا أو ثانويًا، بل هو ضرورة بيولوجية لأداء العمليات الحيوية داخل الخلايا والأنسجة. فهو يساهم في نقل الأكسجين والمواد الغذائية إلى الخلايا، ويعمل على تنظيم درجة حرارة الجسم، ويساعد في التخلص من السموم والفضلات عبر البول والعرق.

كما أن الماء يدخل في التفاعلات الكيميائية الحيوية التي تُعرف بالاستقلاب (الميتابوليزم)، ويعد مذيبًا ممتازًا للعديد من المركبات العضوية وغير العضوية، ما يجعل منه وسطًا كيميائيًا لا يمكن الاستغناء عنه. نقص الماء في الجسم، حتى بنسبة بسيطة، يمكن أن يؤدي إلى الإرهاق، والدوخة، واضطرابات في التركيز، بينما يؤدي النقص الشديد إلى الفشل الكلوي أو حتى الوفاة.

الماء في الزراعة والأمن الغذائي

الزراعة هي العمود الفقري للأمن الغذائي، ولا يمكن تصور وجود الزراعة بدون الماء. فالماء هو العنصر الأساسي في عملية الري التي تُغذي التربة وتضمن نمو النباتات والمحاصيل الغذائية. وتعتمد معظم المحاصيل الزراعية، سواء كانت من الحبوب أو الفواكه أو الخضروات، على كميات محددة من الماء في مواسم معينة لكي تنمو وتثمر.

في الدول التي تعاني من شحّ المياه، تتأثر الزراعة بشكل مباشر، مما يؤدي إلى انخفاض الإنتاج الغذائي، وارتفاع الأسعار، وانتشار المجاعات وسوء التغذية. ولهذا فإن الإدارة الفعالة لموارد المياه تُعد ركيزة استراتيجية في تحقيق الأمن الغذائي المستدام، خاصة في ظل التحديات المتزايدة مثل التغير المناخي وزيادة عدد السكان.

الماء والصناعة والتنمية الاقتصادية

تلعب المياه دورًا رئيسيًا في مختلف الصناعات، سواء كانت ثقيلة أو خفيفة. تُستخدم المياه في التبريد، والتنظيف، والتصنيع، وإنتاج الطاقة، وصناعة الأدوية، والنسيج، والأغذية والمشروبات، وغيرها من المجالات الحيوية. فمثلاً، تحتاج المصانع إلى كميات ضخمة من المياه يوميًا لتشغيل الأجهزة والمعدات وتبريدها، كما تُستخدم المياه في العمليات الكيميائية التي تدخل في صناعة المواد الخام.

الاستثمارات في مشاريع البنية التحتية المائية، مثل محطات المعالجة والتحلية، تعزز من التنمية الاقتصادية، وتفتح أبوابًا جديدة للتوظيف، وتسهم في استدامة المشاريع الصناعية. كما أن توافر المياه يُعد من أهم عوامل جذب الاستثمارات إلى الدول والمناطق المختلفة، مما يعكس مدى ارتباط الماء بالتنمية والنمو الاقتصادي.

الماء والتوازن البيئي

الماء يشكّل عنصرًا جوهريًا في النظم البيئية الطبيعية، ويُعد المحرك الأساسي لدورة الحياة في الأرض. فهو يؤثر على توزيع الكائنات الحية، ويغذي النظم البيئية مثل الأنهار، والبحيرات، والمحيطات، والسهول، والمستنقعات، والغابات المطيرة. هذه النظم تدعم التنوع البيولوجي، وتعمل كفلاتر طبيعية تنقّي الهواء والماء، وتحد من التلوث وتغير المناخ.

عند حدوث اختلال في دورة الماء الطبيعية نتيجة للتلوث أو التغير المناخي أو النشاط البشري الجائر، تظهر تأثيرات سلبية كبيرة مثل الجفاف، والفيضانات، وارتفاع درجات الحرارة، وانقراض بعض الأنواع الحيوانية والنباتية. لذلك فإن الحفاظ على المياه هو حفاظ على التوازن البيئي واستقرار النظم الطبيعية التي نعيش في كنفها.

الماء في العبادات والديانات

للماء بُعد روحي وديني عميق في مختلف الديانات السماوية، لا سيما في الإسلام، حيث يُعد الطهارة شرطًا لصحة العبادات. يُستخدم الماء في الوضوء والغُسل، وهو رمز للنقاء والتطهر الجسدي والروحي. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

“وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ” [الأنبياء: 30].

وتتجلى أهمية الماء في الشعائر الدينية الأخرى كذلك، مثل التعميد في المسيحية، واستخدام الماء المقدس في طقوس التطهير في الهندوسية والبوذية. في جميع هذه الممارسات، يُنظر إلى الماء كعنصر طاهر يُعيد للإنسان صفاءه ونقاءه الداخلي.

تحديات المياه في العصر الحديث

رغم أن المياه تُغطي أكثر من 70% من سطح الأرض، إلا أن نسبة المياه العذبة الصالحة للشرب لا تتجاوز 2.5% فقط، ومعظمها محتجز في الأنهار الجليدية أو المياه الجوفية العميقة. هذا النقص في المياه العذبة، إلى جانب تزايد الطلب بسبب النمو السكاني والتوسع الصناعي، أدّى إلى بروز أزمات مائية خطيرة تهدد الاستقرار العالمي.

تواجه العديد من الدول، لا سيما في مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا، تحديات كبرى تتمثل في شح المياه، وتدهور نوعيتها، وتلوث مصادرها، وتغير نمط تساقط الأمطار. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، من المتوقع أن يواجه أكثر من 5 مليارات شخص نقصًا في المياه بحلول عام 2050 إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة.

الحلول والاستراتيجيات المستدامة لإدارة المياه

لحماية نعمة الماء وضمان استدامتها، لا بد من اتخاذ مجموعة من التدابير المتكاملة على المستويين المحلي والعالمي، تشمل:

1. تحسين البنية التحتية لشبكات المياه: مثل إصلاح التسربات وتقليل الفاقد.

2. تطوير تقنيات الري الحديثة: كالري بالتنقيط والري بالرش لتقليل الهدر في الزراعة.

3. إعادة تدوير مياه الصرف الصحي: لاستخدامها في الري والصناعة.

4. تحلية مياه البحر: خصوصًا في الدول الساحلية ذات الموارد المائية المحدودة.

5. توعية الأفراد والمؤسسات: بأهمية الترشيد وعدم الإسراف في استهلاك المياه.

6. سن القوانين الرادعة للتلوث المائي: وفرض غرامات على الجهات الملوثة.

7. البحث العلمي والتطوير: لإيجاد حلول مبتكرة لتوفير المياه والمحافظة عليها.

جدول يوضح توزيع استخدامات المياه عالميًا

هذا الجدول يُظهر أن القطاع الزراعي يستهلك النسبة الأكبر من موارد المياه، مما يستوجب تحسين كفاءة استخدام المياه في هذا القطاع لتحقيق التوازن بين الأمن الغذائي والحفاظ على الموارد الطبيعية.

الماء والعدالة الاجتماعية

توزيع المياه ليس فقط قضية بيئية أو اقتصادية، بل هو أيضًا قضية عدالة اجتماعية. فالفجوة بين الدول الغنية بالمياه والدول الفقيرة بها تتسع يومًا بعد يوم، مما يخلق صراعات إقليمية ونزاعات حدودية حول مصادر المياه المشتركة. وقد بدأت بعض الدول بالفعل