أهمية السياسة الشرعية

تُعد السياسة الشرعية من أبرز المفاهيم في الفقه الإسلامي التي تميزت بمرونتها وقدرتها على التفاعل مع الواقع، ومواكبة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حياة المسلمين، بما يحفظ مقاصد الشريعة ويحقق العدالة العامة ويكفل تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وتكمن أهمية السياسة الشرعية في أنها تسعى إلى تنظيم شؤون الدولة والمجتمع بأسلوب يتناغم مع النصوص الشرعية وروح الشريعة، دون الجمود على ظاهر النصوص في المسائل التي تحتمل الاجتهاد، بل تفتح المجال للسلطان أو الحاكم المسلم لاتخاذ ما يراه صالحًا لرعاية شؤون الأمة، ما دام ذلك لا يتعارض مع أصول الشريعة وثوابتها.

تعريف السياسة الشرعية

السياسة الشرعية هي مجموعة من القواعد والأحكام والتدابير التي يضعها ولي الأمر لتنظيم شؤون الدولة والمجتمع، وفقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها الكلية، دون أن تكون هذه التدابير منصوصًا عليها بشكل مباشر في الأدلة الشرعية التفصيلية. وقد عرفها العلماء بعبارات متعددة، منها تعريف ابن عقيل الحنبلي الذي قال: “السياسة ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي”. وهذا المفهوم الواسع للسياسة الشرعية يكشف عن أهميتها وقدرتها على معالجة مستجدات العصر وتحديات الحكم.

الأساس الفقهي للسياسة الشرعية

ترتكز السياسة الشرعية على جملة من المبادئ المستمدة من الشريعة الإسلامية، أهمها قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وقاعدة “تصرف الإمام منوط بالمصلحة”، وقاعدة “حيثما وُجدت المصلحة فثم شرع الله”، وهذه القواعد توفر أرضية فقهية مرنة للحاكم في تسيير شؤون الدولة وتطبيق القوانين بما يحقق مقاصد الشريعة.

كما أن تطبيق السياسة الشرعية لا يتم بمعزل عن قواعد الشورى والعدل والرحمة والمساواة، وكلها مقاصد شرعية كبرى تدور حولها أحكام الإسلام. وتُستمد السياسة الشرعية من الكتاب والسنة، ثم من الإجماع والقياس والمصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع، وكلها أدوات فقهية أصيلة في التراث الإسلامي.

تطور السياسة الشرعية عبر التاريخ الإسلامي

شهدت السياسة الشرعية تطورًا ملحوظًا عبر التاريخ الإسلامي، بدءًا من عهد النبوة، حيث كان النبي محمد ﷺ يمارس الشأن السياسي إلى جانب التشريع، وكان يُقدر المصلحة العامة في كثير من القضايا، كاختياره رؤساء الجيوش، أو عقد المعاهدات، أو تنظيم موارد الدولة.

وفي عهد الخلفاء الراشدين، ظهرت مظاهر السياسة الشرعية بشكل أوضح، من خلال التنظيم الإداري والمالي للدولة، وتعيين الولاة، وفرض العقوبات التعزيرية، وتدوين الدواوين، كل ذلك وفقًا لمبدأ المصلحة العامة وضمان استقرار الدولة.

ومع تطور الدولة الإسلامية وامتدادها جغرافيًا، تنامت الحاجة لتوسيع آليات السياسة الشرعية، فظهرت اجتهادات الفقهاء والسلاطين في تنظيم القضاء، وإنشاء المؤسسات، وتقنين بعض المعاملات، وتنظيم الجباية والضرائب، وتأسيس الجيوش، وإبرام المعاهدات، كل ذلك في إطار شرعي يهدف إلى خدمة الأمة.

أهمية السياسة الشرعية في تحقيق مقاصد الشريعة

إن أهمية السياسة الشرعية تبرز بشكل جلي في قدرتها على تفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية في مختلف المجالات، ويمكن تلخيص ذلك في النقاط التالية:

1. حفظ الضرورات الخمس

السياسة الشرعية تمثل أداة رئيسية لحفظ الكليات الخمس التي تقوم عليها الشريعة: الدين، النفس، العقل، النسل، والمال. فعندما يسن الحاكم المسلم قوانين وتشريعات تمنع الاعتداء على النفس أو الأموال أو الأعراض، أو تحمي الدين من التحريف، فهو في الحقيقة يُفعّل السياسة الشرعية لتحقيق هذه الضرورات.

2. تحقيق العدل الاجتماعي

العدل هو جوهر الحكم في الإسلام، والسياسة الشرعية تُمكّن الحاكم من سن قوانين تعزز من العدالة الاجتماعية، وتقلص من الفوارق الطبقية، وتكافح الفساد، وتمنع الاستبداد. كما أنها تتيح إعادة توزيع الثروات عبر آليات مثل الزكاة والصدقات والضرائب العادلة.

3. حماية النظام العام

من أبرز وظائف السياسة الشرعية أنها تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحمي مؤسسات الدولة، وتفرض النظام والانضباط العام، وتحفظ الأمن الداخلي والخارجي للدولة. وتُعد العقوبات التعزيرية مثالًا واضحًا على صلاحيات السياسة الشرعية في هذا الباب.

4. مواجهة المستجدات

لا توجد دولة معاصرة تخلو من تحديات متجددة، مثل التغيرات الاقتصادية، والتطور التكنولوجي، والمشاكل البيئية، والنزاعات الدولية. وتوفر السياسة الشرعية إطارًا مرنًا للتعامل مع هذه القضايا بما يراعي المصلحة العامة ويحترم مقاصد الشريعة، دون الوقوع في الجمود النصي.

تطبيقات السياسة الشرعية في مجالات الحياة

1. المجال القضائي

في إطار السياسة الشرعية، يملك الحاكم صلاحية تعيين القضاة وتحديد نطاق اختصاصهم، وتنظيم الإجراءات القضائية بما يحقق العدالة وسرعة البت في القضايا، وإدخال الأنظمة المعاصرة ما دامت لا تخالف الشريعة. كما يُمكنه فرض العقوبات التعزيرية التي لم ترد بنص صريح، كالسجن أو الغرامة أو الحرمان من بعض الحقوق، إذا رأى في ذلك مصلحة للمجتمع.

2. المجال الاقتصادي

تُستخدم السياسة الشرعية لضبط الأسواق ومنع الاحتكار والغش والتلاعب بالأسعار، وتنظيم الضرائب والجبايات بما يحقق التوازن المالي ويضمن توزيعًا عادلًا للثروة. كما تسمح بتأسيس مؤسسات مالية تلتزم بأحكام الشريعة مثل البنوك الإسلامية، وتدعم التنمية الشاملة.

3. المجال الإداري

يُخول لولي الأمر – وفق السياسة الشرعية – سن القوانين الإدارية التي تنظم شؤون الوظيفة العامة، من حيث التعيين والعزل والرواتب والمكافآت، بشرط أن تكون هذه الأنظمة منسجمة مع قواعد العدالة والمساواة.

4. المجال التعليمي والثقافي

في هذا المجال، تسمح السياسة الشرعية بإصدار قوانين تنظم المناهج الدراسية بما يتوافق مع القيم الإسلامية، وتضمن تربية النشء تربية متكاملة تحافظ على الهوية الثقافية الإسلامية، وتحمي من الغزو الثقافي والانحلال الأخلاقي.

5. المجال الخارجي والدولي

السياسة الشرعية تمثل الإطار الذي ينظم علاقات الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، من خلال المعاهدات، والاتفاقيات، والتفاوض، والحرب والسلم، بما يحقق مصلحة الأمة ويحفظ كيانها وسيادتها ويعزز مكانتها الدولية.

الفرق بين السياسة الشرعية والسياسة الوضعية

من المهم التمييز بين السياسة الشرعية والسياسة الوضعية؛ فالأولى مستمدة من الشريعة الإسلامية وتراعي مقاصدها، وتستهدف مصلحة الأمة في ضوء أحكام الدين، أما الثانية فهي تقوم غالبًا على اعتبارات مادية ونفعية، وقد لا تأخذ بعين الاعتبار القيم الأخلاقية أو المبادئ الروحية.

ويتميز النظام السياسي الإسلامي بأنه يجعل من الحاكم خادمًا للأمة، مسؤولًا أمام الله تعالى، وليس متسلطًا عليها، كما أن السلطة في الإسلام مقيدة بمقاصد الشريعة وليس مطلقة، وتخضع للمراقبة والمحاسبة عبر آلية الشورى.

الجدول التالي يلخص الفروق بين السياسة الشرعية والسياسة الوضعية:

التحديات المعاصرة أمام تفعيل السياسة الشرعية

على الرغم من الأهمية الكبرى للسياسة الشرعية، إلا أن تطبيقها في العصر الحديث يواجه عدة تحديات، منها:

• ضعف الوعي العام بها: الكثير من أبناء الأمة يجهلون معاني السياسة الشرعية وحدودها ومجالاتها.

• الأنظمة القانونية المستوردة: ما زالت كثير من الدول الإسلامية تعتمد على قوانين مستوردة من الغرب، ولا تراعي الخصوصية الإسلامية.

• الاستبداد السياسي: في بعض الدول، يغيب مبدأ الشورى ويُغيب العلماء، مما يُعطل دور السياسة الشرعية في تحقيق العدل والمصلحة.

• غياب المؤسسات الفقهية الفاعلة: عدم وجود مؤسسات علمية قوية تواكب الواقع وتسهم في صياغة السياسات العامة وفق الشريعة.

• التحديات الدولية والضغوط الخارجية: التدخلات الأجنبية وفرض نماذج معينة من الحكم تعرقل أحيانًا استقلال القرار السياسي الشرعي.

الخاتمة

السياسة الشرعية هي من أهم أدوات الشريعة الإسلامية في إدارة شؤون الدولة وتحقيق مقاصدها العليا، وهي الإطار الذي يمكن من خلاله التعامل مع متغيرات العصر دون التفريط في الثوابت الدينية. إن إحياء السياسة الشرعية، وفق منظور معاصر متجدد، يضمن قيام دولة عادلة ومزدهرة ومستقرة، تحترم الإنسان وتصون كرامته وتحقق له الأمن في دينه ودنياه.

المراجع:

1. ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، تحقيق: علي سامي النشار.

2. يوسف القرضاوي، مدخل إلى السياسة الشرعية.