أهمية الاجتهاد في العلم

أهمية الاجتهاد في طلب العلم

يُعدُّ الاجتهاد في طلب العلم من أسمى القيم التي أرستها الشريعة الإسلامية، وأحد أعمدة النهضة الحضارية التي أقام عليها المسلمون أعظم حضارات التاريخ. فالعلم ليس رفاهية عقلية ولا ترفاً فكرياً، بل ضرورة شرعية ووسيلة لتزكية النفس وإصلاح الفرد والمجتمع، كما أنه مفتاح لفهم الدين والدنيا، وعامل أساس في بناء القوة والتمكين. والاجتهاد في تحصيله لا يقتصر على طلبة المعاهد والجامعات، بل هو مسار ممتد مدى الحياة، لا ينقطع ما دام القلب ينبض والعقل يعمل. فالعلم بحر لا ساحل له، والاجتهاد فيه هو المجد الذي يبلغه من شمَّر وواصل وصدق النية، وأخلص العمل، وربط همته بالله تعالى.

العلم فريضة والاجتهاد سبيلها

لقد أوجب الإسلام طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، كما ثبت في الحديث النبوي الشريف: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” (رواه ابن ماجه). وهذه الفريضة لا تُنال بالتمني ولا بالكسل، وإنما بالسعي والكد والتعب والاجتهاد، فالعلم منحة إلهية لا تفتح أبوابها إلا لمن طرقها بالعزم والصبر والمثابرة. ومما يدل على علوّ منزلة العلم أن أول ما نزل من الوحي الإلهي على النبي صلى الله عليه وسلم كان قول الله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، فابتدأت الرسالة بالإعلان عن قدسية القراءة والمعرفة، وجعلت منها السبيل الأول إلى الإيمان والعبادة.

إن من يتأمل في سِيَر العلماء، من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، يدرك أن الاجتهاد كان قاسماً مشتركاً في حياة جميعهم. فقد كانوا يسهرون الليالي، ويقطعون الفيافي، ويغتربون عن أوطانهم في سبيل طلب العلم. يقول الإمام الشافعي: “حقٌّ على كل طالب علم أن يبلُغ في طلبه غايته، فإن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك”.

الاجتهاد في طلب العلم طريقٌ إلى الفهم الراسخ

العلم الذي يُنال بالتراخي والكسل لا يدوم أثره، ولا يُثمر نتائجه المرجوة. أما العلم الذي يُطلب بجدٍّ واجتهاد، فإنه يُرسَّخ في العقل ويثمر في السلوك والعمل. فالاجتهاد يمنح طالب العلم قدرة على الفهم العميق، والتمييز الدقيق، والنظر الثاقب في المسائل، ويساعده على إعمال ملكة التحليل والتدقيق والاستنباط. وهذا ما جعل العلماء يميزون بين “الحافظ” و”الفقيه”، فالأول قد يحفظ الكثير دون تدبر، أما الثاني فيجمع بين الفهم والحفظ، نتيجة اجتهاده وتدقيقه ومتابعته.

ويُعدُّ الاجتهاد في طلب العلم من وسائل تزكية النفس وتطهيرها من آفات الكبر والجهل والهوى، إذ إن طالب العلم إذا أخلص لله تعالى، وجدّ واجتهد، تهذّب قلبه وتعمقت بصيرته، وتفتحت مداركه، فيصبح أكثر تواضعاً لله، وأقرب إلى الفهم الصحيح لنفسه ولدينه ولحياته.

أثر الاجتهاد العلمي في بناء الحضارات

لقد شهد التاريخ الإسلامي نماذج مشرقة من الاجتهاد في طلب العلم، أدت إلى ازدهار الحضارة الإسلامية في شتى المجالات. ففي العصر العباسي، على سبيل المثال، كانت بغداد مركزاً علمياً عظيمًا جذب إليه العلماء من كل أنحاء العالم، وكان بيت الحكمة يُترجم العلوم الفارسية، واليونانية، والهندية إلى العربية، في مشهد يدل على عظمة الاجتهاد العلمي ودوره في إثراء المعرفة.

إن ما بلغته الأمة الإسلامية من تقدم في الفلك، والطب، والهندسة، والفيزياء، والفلسفة، وغيرها من العلوم، كان ثمرة مباشرة لاجتهاد علمائها الذين لم يكتفوا بالكتب والمجالس، بل أنشأوا المختبرات، ودوّنوا الملاحظات، وابتكروا المنهج التجريبي قبل أن تعرفه أوروبا بقرون. وكل ذلك كان نتيجة مباشرة لعقلية تقدس الاجتهاد وتربط بين العلم والعمل.

الاجتهاد سبيل للنهوض من التخلف

في زمن تشهد فيه أمتنا الإسلامية تحديات معرفية وحضارية واقتصادية هائلة، يصبح الاجتهاد في طلب العلم واجباً مضاعفاً على كل فرد ومؤسسة. فالتخلف الذي تعاني منه بعض المجتمعات ليس قدراً حتمياً، بل هو نتيجة مباشرة لتراجع الاجتهاد العلمي، وضعف حركة البحث، وقلة الاستثمار في العقول. ومن هنا، فإن استعادة الأمة لمكانتها بين الأمم لا يمكن أن تتم إلا بإحياء روح الاجتهاد في طلب العلم، ابتداءً من الأسرة، ومرورًا بالمدرسة، ووصولاً إلى الجامعات ومراكز البحث.

إن الجامعات ليست مجرد قاعات لتلقي المعلومات، بل ينبغي أن تكون مختبرات لصناعة الفكر والإبداع، وبيئة حاضنة للمجتهدين من الباحثين والطلاب. والنجاح العلمي لا يتحقق بمنح الشهادات، بل بمدى ما يضيفه الطالب أو الباحث إلى مجاله من معرفة جديدة، وحلول للمشكلات، وإسهام في بناء المستقبل.

الاجتهاد في العلم عبادة مستمرة

إنّ طلب العلم بنية صادقة يُعدُّ من أفضل العبادات، خاصة إذا اقترن بالاجتهاد والمثابرة. وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: “الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس”.

والمجتهد في طلب العلم يُعدّ في عبادة دائمة إذا كانت نيته خالصة لوجه الله، وكان علمه نافعاً. قال الحسن البصري: “فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب”، لأن العالم يعبد الله على بصيرة ويهدي الناس إلى الحق، أما العابد فعبادته قاصرة على نفسه. والاجتهاد العلمي هنا يُعدُّ باباً من أبواب القربى إلى الله، ووسيلة عظيمة لخدمة الناس، وتحقيق مصالحهم، والدفاع عن دينهم.

التدرج والمرابطة في مسيرة الاجتهاد

من خصائص الاجتهاد العلمي أنه لا يُنال دفعة واحدة، بل هو مسار طويل يتطلب صبراً وتدرجاً وانضباطاً في التعلم. وقد قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: “إن من طلب العلم جملةً فاته جملةً، وإنما يُطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي”. ولذلك فإن طالب العلم المجتهد يلتزم خطة واضحة، ويجعل لكل يوم حظه من القراءة والفهم والمراجعة، ولا يستصغر الوقت ولا يحتقر الجهد البسيط، لأن التراكم البسيط المتدرج يصنع الفرق الكبير على المدى الطويل.

كما أن من علامات الاجتهاد الثبات والاستمرار، فالانقطاع عن العلم والكسل في طلبه يفوّت على الإنسان كثيراً من الفرص، ويفسد ما حصّله من قبل. وقد ضرب العلماء المثل بـ”العلم صيد، والكتابة قيده”، فلا بد من توثيق العلم وتكرار مراجعته، والحرص على تحصيله يوماً بعد يوم، ساعة بعد ساعة.

الاجتهاد بين الحفظ والفهم والتطبيق

يظن بعض الناس أن الاجتهاد في طلب العلم يقتصر على الحفظ فحسب، مع أن العلم لا ينفع إلا إذا اقترن بالفهم والتطبيق. قال ابن القيم: “العلم بلا عمل كشجرة بلا ثمرة”، وقد قال الله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3].

والاجتهاد الحقيقي هو الذي يشمل جوانب العلم الثلاثة:

ولذلك فإن المجتهد لا يرضى بالاطلاع السطحي، بل يسعى إلى الفهم العميق، والتفكير التحليلي، والاستنباط العملي. ويحرص على أن يُترجم ما تعلمه إلى مشاريع واقعية، سواء في مهنته أو مجتمعه أو دعوته أو حتى حياته الشخصية.

مكانة المجتهد في المجتمع الإسلامي

لقد رفع الإسلام من شأن طالب العلم المجتهد، وجعل له مقاماً رفيعاً في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، فالعلم يرفع أهله ويزيدهم شرفاً وقدراً، ويجعلهم مرجعاً للأمة، ومصدر هداية للناس. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة” (رواه مسلم).

كما أن المجتهد في العلم يحظى بدعاء الملائكة، ورضا الله، واحترام الناس، وقد عبّر ابن الجوزي عن ذلك بقوله: “من أحب أن لا يزال عقله ثابتاً، فليستكثر من العلم، فإن العقل ينمو كما تنمو العضلة بالتمرين”.

الخاتمة: الاجتهاد فريضة العصر

في عصر تتسارع فيه وتيرة المعرفة، وتتضاعف فيه التحديات، يصبح الاجتهاد في طلب العلم فريضة عقلية ونفسية ودينية، لا يُستغنى عنها. فبالاجتهاد نرتقي في مراتب الفهم، ونحرر العقول من الجمود، ونبني المستقبل بوعي ورؤية. ومهما كانت التخصصات والاهتمامات، فإن جوهر الاجتهاد يبقى واحداً: السعي الحثيث نحو التميز، والانضباط في تحصيل العلم، والإخلاص في نية التعلم، والربط بين النظرية والتطبيق، والخدمة الحقيقية للناس والمجتمع من خلال ما نتعلمه ونعرفه.

المراجع:

1. الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه

2. ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله