الأمية في أمريكا: دراسة في أزمة وطنية
في عالم يتفاخر بكونه من بين الأرقى من حيث التقدم الثقافي والحضاري، يبدو أن هناك ظلاً قاتماً يخيم على دولة تعتبر من أكبر القوى الاقتصادية والعلمية في العالم. يتجلى هذا الظل في دراسة نشرتها دار النشر “أنكور بوكس” في مارس من عام 1985 بعنوان “أمية أمريكا” للمؤلف جوناثان كوزول، والذي كشف النقاب عن مشكلة معقدة وعميقة في النسيج الاجتماعي الأمريكي. هذا الكتاب يمثل صرخة مدوية تحذر من تداعيات أزمة الأمية التي تعصف بملايين الأمريكيين.
يبدأ كوزول كتابه بتوصيف صادم لحقيقة قاسية: حوالي 25 مليون بالغ أمريكي غير قادرين على قراءة تحذيرات السموم على علب المبيدات الحشرية، أو رسائل من معلمي أبنائهم، أو حتى الصفحة الأولى من الصحف. بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك 35 مليون شخص آخرين يقرؤون بمستوى أقل من المطلوب للقيام بمهامهم بنجاح في المجتمع. هذه الأرقام تعكس أزمة أعمق من مجرد مشكلة تعليمية؛ إنها قضية تتعلق بالمجتمع ككل، وتأثيرها يمتد إلى الاقتصاد والرفاهية العامة.
تعتبر الولايات المتحدة، رغم مكانتها الكبيرة على الساحة العالمية، متأخرة في مجال محو الأمية، حيث تحتل المرتبة التاسعة والأربعين من بين 158 دولة عضو في الأمم المتحدة. هذا الترتيب يكشف عن مشكلة كبيرة من حيث القدرة على القراءة والكتابة، والتي لها تأثيرات اقتصادية واجتماعية هائلة. التقديرات تشير إلى أن الولايات المتحدة تهدر أكثر من 100 مليار دولار سنوياً بسبب الأمية، وهو مبلغ ضخم يعكس مدى خطورة القضية وأثرها على الاقتصاد الوطني.
في “أمية أمريكا”، يتناول كوزول المأساة من خلال دمج الإحصاءات الصارخة والقصص المؤثرة. يقدم الكتاب تحليلاً دقيقاً للتكاليف الاقتصادية والبشرية التي ترتبط بالأمية، ويكشف عن أن هذه المشكلة لا تقتصر على كونها مسألة محرجة فحسب، بل إنها كارثة اجتماعية واقتصادية. من خلال استعراض تجارب الأفراد المتأثرين ومواقفهم، يعرض كوزول التأثير العميق للأمية على حياة الناس وعلى قدرتهم على المشاركة في المجتمع بشكل فعال.
الكتاب لا يقتصر على تشخيص المشكلة فحسب، بل إنه يتناول أيضاً تحليل الإجراءات الحكومية السابقة ويكشف عن القصور الكبير في السياسات المتبعة لمواجهة هذه الأزمة. يندد كوزول بالاستجابات السابقة التي لم تكن على مستوى التحدي، ويقدم دعوة ملحة للإصلاح. وفي إطار هذه الدعوة، يطرح كوزول برنامجاً محدداً لمواجهة الأمية، يهدف إلى تقديم حلول ملموسة وفعالة.
واحدة من الأبعاد المدهشة في الكتاب هي كيف أن واحداً من كل ثلاثة بالغين أمريكيين لا يمكنهم قراءة هذا الكتاب، وهو ما يسلط الضوء على حجم الأزمة وتعقيداتها. يكشف هذا الواقع عن عمق المشكلة ويجعل من الضروري على الجميع أن يتكاتفوا للتصدي لهذه الأزمة. إذ لا يمكن معالجة مشكلة بهذا الحجم إلا من خلال جهد جماعي وشامل، يتضمن تعزيز التعليم، تحسين الموارد، وتطوير السياسات التي تركز على مكافحة الأمية بشكل فعال.
بشكل عام، يقدم “أمية أمريكا” رؤى هامة حول تحديات التعليم في الولايات المتحدة ويشدد على الحاجة الملحة للتغيير. يعتبر هذا الكتاب دعوة قوية لتصحيح الأوضاع والعمل على إيجاد حلول واقعية لمشكلة الأمية، التي لا يمكن أن تُترك دون معالجة في مجتمع يتطلع إلى التقدم والتطور.