الملك أمنحتب الثالث: عظمة الحكم في أوج الدولة الحديثة

يُعد الملك أمنحتب الثالث أحد أعظم ملوك الأسرة الثامنة عشرة في مصر القديمة، ويمثل فترة حكمه نقطة فاصلة في تاريخ الحضارة المصرية، حيث بلغت الدولة الحديثة أوج قوتها وازدهارها في عهده، ليس فقط على الصعيد السياسي والعسكري، بل أيضاً في ميادين الفن، والعمارة، والدين، والدبلوماسية. امتد حكمه لما يقارب أربعة عقود في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتميز بالسلام النسبي والثراء الهائل، مما أتاح لمصر التفرغ لتطوير حضارتها على نحو غير مسبوق.

النسب والأسرة

أمنحتب الثالث هو ابن الملك تحتمس الرابع، أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة، ووالدته الملكة موتِمُويا (Mutemwiya)، وهي زوجة ثانوية للملك تحتمس الرابع، لكن أمنحتب ورث العرش بصفته الابن الشرعي وولي العهد المختار. ينتمي أمنحتب الثالث إلى سلالة ملكية عظيمة، بدأت مع أحمس الأول، محرر مصر من الهكسوس ومؤسس الدولة الحديثة. تزوج الملك أمنحتب الثالث من الملكة تي (Tiye)، التي لعبت دوراً سياسياً بارزاً في حياته، وكانت أول ملكة تظهر بصور واضحة إلى جانب الملك في التماثيل والنصوص الرسمية.

فترة حكمه وتاريخه السياسي

تولى أمنحتب الثالث العرش وهو لا يزال شاباً، ويُعتقد أن عمره حينها لم يتجاوز الثانية عشرة. ورث عن والده وجده مملكة مستقرة وغنية، ما مكنه من التركيز على تعزيز نفوذ مصر عن طريق السلم أكثر من الحرب. لم يسجل عهده حملات عسكرية كبرى في آسيا أو النوبة، على عكس سابقيه من الملوك المحاربين مثل تحتمس الثالث، بل اعتمد على الدبلوماسية والمصاهرة السياسية لتوسيع نفوذه.

استقبل أمنحتب الثالث وفوداً دبلوماسية من دول كبرى في الشرق الأدنى القديم مثل ميتاني وبابل وأشور والحيثيين، وحرص على تبادل الهدايا الثمينة معهم. وقد وثقت الرسائل الدبلوماسية في أرشيف “تل العمارنة” هذه العلاقات، وهي رسائل مرسلة بالخط المسماري من ملوك هذه الدول إلى أمنحتب، تطلب عقد تحالفات أو زيجات ملكية أو تبادل الهدايا، مما يدل على مكانة مصر العليا حينها.

الإنجازات المعمارية

شهد عهد أمنحتب الثالث نهضة عمرانية مذهلة، حيث شيد عدداً هائلاً من المعابد والمنشآت الضخمة التي لا تزال آثارها شاهدة على عبقرية الهندسة المعمارية المصرية القديمة. ومن أهم مشاريعه المعمارية:

1. معبد الأقصر:

أمر أمنحتب الثالث ببناء معبد الأقصر في طيبة (الأقصر الحالية) ليكون مركزاً لعبادة الإله آمون رع، وقد زينه بتماثيل ضخمة وممرات أعمدة رائعة، ويعتبر هذا المعبد من أعظم ما شُيد في العصر الذهبي لمصر.

2. معبده الجنائزي:

بنى أمنحتب الثالث معبداً جنائزياً ضخماً في غرب طيبة، قرب الدير البحري، والذي كان يُعد من أكبر المعابد الجنائزية في مصر القديمة، إلا أنه دُمر إلى حد كبير بفعل فيضان النيل المتكرر، ولم يتبقَ منه اليوم سوى تمثالي ممنون الشهيرين، اللذين يمثلان الملك جالساً.

3. قصر الملايين من السنين:

بنى أيضاً قصراً فخماً في منطقة الملقطة غرب طيبة، عُرف باسم “قصر الملايين من السنين”، وضم بين جنباته قاعات ضخمة، وحدائق، وبحيرات، وكان يُعد من أعظم القصور الملكية في مصر القديمة.

4. معابد النوبة:

وسع أمنحتب الثالث نفوذ مصر جنوباً، وأمر ببناء عدد من المعابد في النوبة (السودان الحالي)، منها معابد في سولي وسدفا، تأكيداً على السيادة المصرية في تلك المناطق.

الفن والتماثيل

ازدهر الفن المصري في عهد أمنحتب الثالث إلى أقصى حدوده، واتسمت التماثيل بدقة النحت وجمال الملامح ووفرة التفاصيل. ويُعتقد أن عدد التماثيل التي نُحتت له خلال فترة حكمه يتجاوز 250 تمثالاً، وهو رقم ضخم مقارنة ببقية الملوك المصريين. وظهرت في تلك الفترة تطورات فنية مهمة، منها:

• تجسيد أدق لملامح الوجه والابتسامة الملكية.

• ظهور تماثيل مزدوجة تجمعه مع زوجته الملكة تي.

• استخدام الأحجار النادرة مثل الكوارتزيت والجرانيت الوردي.

العلاقات الدبلوماسية والسياسية

عُرفت فترة حكم أمنحتب الثالث بازدهار غير مسبوق في العلاقات الدولية والدبلوماسية. تبادل الملك رسائل مع ملوك ميتاني والحيثيين وبابل وآشور وقبرص، وهي رسائل تم العثور عليها في أرشيف تل العمارنة، وتشير إلى علاقات قائمة على الاحترام المتبادل وتبادل الهدايا. وكان الملوك الأجانب يتوددون إليه عبر إرسال بناتهم للزواج منه أو يطلبون ذهب مصر المعروف بجودته.

كما تشير تلك الرسائل إلى إدراك القوى الإقليمية الأخرى لمكانة مصر الاقتصادية والسياسية، إذ كان الذهب المصري محور طمع وتودد، وطلب العديد من الملوك الأجانب أن “يرسل لهم الملك أمنحتب ذهباً لا يُحصى”، كما جاء في نصوص تلك الرسائل.

الدين والتقوى الملكية

رغم ظهور بوادر التحول الديني في نهاية عهده، والذي بلغ ذروته لاحقاً في عهد ابنه إخناتون، فإن أمنحتب الثالث كان لا يزال ملتزماً بالعقيدة التقليدية للمصريين القدماء، وخاصة عبادة آمون رع، الإله الأعلى في ذلك الوقت. وبنى الملك معابد ضخمة لهذا الإله، وحرص على تأكيد علاقته الشخصية به من خلال النقوش والتماثيل.

كما عُرف بإقامته لمهرجان “حب-سد”، وهو احتفال ملكي يُقام عادة بعد مرور ثلاثين عاماً على تولي الملك الحكم، تأكيداً على تجديد قوته وسلطته، لكن أمنحتب بدأ الاستعداد للاحتفال به في العام الثلاثين من حكمه واحتفل به مرات عدة، مما يدل على حرصه على إظهار شرعيته وقوته المتجددة.

فترة ما قبل إخناتون: بوادر التغيير

في أواخر حكم أمنحتب الثالث، ظهرت بعض العلامات التي تشير إلى تغييرات دينية وثقافية، مثل تزايد أهمية الإله آتون، قرص الشمس، الذي سيصبح الإله الوحيد في عبادة التوحيد التي فرضها لاحقاً ابنه أمنحتب الرابع (إخناتون). وقد ظهر اسم آتون في بعض نقوش تلك الفترة، مما يشير إلى تمهيد فكري وسياسي للتحولات القادمة.

كما أن بعض الباحثين يرون في الأسلوب الفني المتحرر الذي بدأ يظهر في أواخر عهده، وتحديداً في تصوير الأسرة المالكة، مؤشراً على بداية ما سُمي لاحقاً بـ”الفن العمارني”.

الأسرة والورثة

أنجب أمنحتب الثالث عدداً من الأبناء والبنات من زوجته تي، وكان أبرزهم ابنه أمنحتب الرابع، الذي سيعرف لاحقاً باسم إخناتون، مؤسس الديانة التوحيدية التي عبدت آتون. كما زوج بناته لبعض كبار المسؤولين والكهنة في الدولة، مما ساعد في تعزيز أواصر الولاء للأسرة الملكية.

ورغم أن العلاقة بين أمنحتب الثالث وابنه إخناتون لا تزال موضع جدل بين الباحثين، فإن هناك دلائل تشير إلى أنهما قد حكما معاً لفترة وجيزة في ما يُعرف بـ”الحكم المشترك”، قبل أن ينفرد إخناتون بالسلطة بعد وفاة والده.

وفاته ومكان دفنه

توفي الملك أمنحتب الثالث بعد نحو 38 عاماً من الحكم، وقد دفن في وادي الملوك في المقبرة KV22، وهي إحدى المقابر الملكية الكبرى في طيبة الغربية. واكتُشفت مومياؤه في خبيئة الدير البحري عام 1898، ونُقلت لاحقاً إلى المتحف المصري بالقاهرة، وتُعرض حالياً في المتحف القومي للحضارة المصرية.

وقد أظهرت الدراسات الحديثة على مومياء الملك أنه كان يعاني من مشاكل في الأسنان وآلام مزمنة في المفاصل، وربما توفي بسبب أحد الأمراض المزمنة، رغم عدم وجود دليل قاطع على سبب الوفاة.

جدول بأهم إنجازات الملك أمنحتب الثالث

الخلاصة

يشكل عهد أمنحتب الثالث ذروة العصر الذهبي للحضارة المصرية في الدولة الحديثة، فقد جمع بين القوة الناعمة والدبلوماسية الرصينة، وقدم نموذجاً لحكم مزدهر يقوم على الاستقرار الداخلي والانفتاح الخارجي. إن إنجازاته المعمارية والفنية والدبلوماسية ما زالت تثير إعجاب الباحثين حتى اليوم، وتُمثل إرثاً تاريخياً هائلاً سبق مرحلة درامية كبرى في تاريخ مصر، وهي مرحلة إخناتون والتحول الديني.

المصادر:

• Reeves, Nicholas. Akhenaten: Egypt’s False Prophet. Thames & Hudson, 2005.

• Redford, Donald B. The Sun Disk and the Royal Family: Art and Religion in the Age of Akhenaten. Princeton University Press, 1984.