أقوال الإمام علي عن الكلام الجارح
يُعتبر الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، من أعظم الشخصيات الإسلامية التي اتسمت بالحكمة والعدل والفصاحة، وقد خلد التاريخ أقواله البليغة ومواقفه العظيمة التي أسست لنهج قويم في الأخلاق والتعاملات الإنسانية. ومن أبرز المواضيع التي تناولها الإمام علي في كلماته وتحذيراته مسألة “الكلام الجارح”، ذلك السلاح اللفظي الذي كثيرًا ما يتسبب في أذى لا يندمل وجراح نفسية لا تبرأ بسهولة.
لقد أدرك الإمام علي، بخبرته العميقة في فهم النفس البشرية والمجتمع، أن الكلمة الجارحة قد تكون أشد فتكًا من السهام، وأنها كثيرًا ما تهدم القلوب وتفسد العلاقات وتزرع الحقد والعداوة. ومن هذا المنطلق، جاءت أقواله تحذيرية، تربوية، ومانعة لكل ما يؤدي إلى التلفظ بما يسيء إلى الآخر أو يجرح مشاعره.
خطورة الكلمة في فكر الإمام علي
من أولى الأسس التي اعتمدها الإمام علي في بيانه لخطورة الكلام الجارح هي إدراكه العميق لأثر الكلمة في بناء الإنسان وهدمه، فقد قال:
“اللسان سبعٌ إن خُلي عنه عقر.”
في هذا القول البليغ يوضح الإمام أن اللسان أداة ذات طاقة كبيرة، فإذا لم تُضبط بالعقل والحكمة، فإنها تؤدي إلى الخراب، والعقر هنا بمعنى التدمير والإهلاك، فالكلمة الجارحة يمكن أن تؤدي إلى نتائج كارثية على المستوى النفسي والاجتماعي.
من أقواله الخالدة عن جرح اللسان
نقل عنه كثير من العلماء والأدباء أقوالاً بليغة، منها:
-
“جراحُ السنان لها التئامٌ، ولا يلتئم ما جرح اللسان.”
في هذا القول، يشير الإمام إلى المفارقة بين الجرح الجسدي والجرح النفسي، فبينما يمكن للجراح الجسدية أن تندمل بمرور الزمن، فإن ما يصيب النفس من إيذاء بالكلام يبقى أثره طويلاً وقد لا يُمحى. -
“احذروا ألسنتكم، فإنها كالسيوف، تقتل ولا تَرى دماً.”
هذا التشبيه المجازي الدقيق يظهر عمق فهم الإمام علي لأثر الكلمة، فاللسان قادر على قتل المعنويات واغتيال القلوب دون أن يترك دماً يُرى. -
“القول السيء يورث الضغينة، ويزرع الشقاق.”
يلفت الإمام النظر هنا إلى الأثر الاجتماعي للكلمة الجارحة، حيث لا تقتصر على الفرد المتلقي فقط، بل تتعدى لتحدث انقسامات بين الناس وتفسد العلاقات.
أثر الكلام الجارح على النفس والمجتمع
الكلمة الجارحة، كما يوضح الإمام علي، لا تمس الجسد ولكنها تنفذ إلى القلب والعقل، فتؤثر في التقدير الذاتي والثقة بالنفس. وقد أشار إلى ذلك في قوله:
“الكلمة سهمٌ نافذ، فلا تُطلقها إلا على عدو.”
وهو بذلك يدعو إلى أن يكون الإنسان مسؤولاً عن كلماته، فلا ينبغي أن يُطلق لسانه بغير وعي، فالكلمات قد تؤدي إلى الإهانة، التحقير، أو التقليل من شأن الآخرين، وهي جميعها أسباب لزرع الكراهية والنفور في النفوس.
وقد روى عنه أيضًا:
“شر الناس من إذا رضي مدح، وإذا سخط قدح.”
في هذا النص يظهر الوجه الآخر للكلمة، الذي يدل على المزاجية في التعامل، حيث أن بعض الناس يجعل من الكلمة الجارحة وسيلة للانتقام، لا أداة للتقويم أو النصح، فيكون مدحه مدحًا مبنيًا على الهوى، وذمه مبنيًا على الحقد، وهي صفات ذميمة أفسدت المجتمعات عبر العصور.
العلاقة بين الكلام الجارح والنية
من أعظم ما ميّز فكر الإمام علي هو الربط بين القول والنية، وبين اللفظ والدافع الداخلي. فالكلمة الجارحة لا تُلقى صدفة، بل غالبًا ما تكون تعبيرًا عن نية سيئة أو حقد دفين، وقد عبر عن هذا بقوله:
“لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه.”
في هذا التوصيف يوضح الإمام أن الإنسان الحكيم لا يتكلم إلا بعد أن يزن كلماته بعقله وقلبه، بينما الأحمق يتكلم بلا تفكير أو رحمة، فيكون قلبه أسيرًا للسانه لا ضابط له، فتخرج من فمه كلمات جارحة دون تمييز.
التحذير من الاستهزاء والسخرية
الكلام الجارح لا يشمل فقط الشتائم أو الإهانات المباشرة، بل يمتد ليشمل أشكالًا أكثر خبثًا كالسخرية والاستهزاء والتقليل من شأن الآخر. وفي هذا السياق قال الإمام علي:
“من استهزأ بالناس هان عليهم، ومن حقرهم احتقره الله.”
ويظهر في هذا القول التأكيد على أن الاستهزاء بالناس أمر مهين لا يُرضي الله، وأن من يستهزئ بغيره سيجد الجزاء في كونه مُهانًا عند الآخرين ومُحتقرًا عند الخالق.
الجدول التالي يوضح بعض أقوال الإمام علي وتحليل معناها وأثرها:
| القول | التحليل | الأثر النفسي والاجتماعي |
|---|---|---|
| “جراحُ السنان لها التئام، ولا يلتئم ما جرح اللسان” | يؤكد الفرق بين الجرح الجسدي واللفظي | يسبب الكلمة الجارحة ألماً نفسياً لا يزول بسهولة |
| “لسان العاقل وراء قلبه” | الحكيم لا يتكلم إلا بعد تفكير | تعزيز ثقافة التفكير قبل النطق |
| “احذروا ألسنتكم” | تحذير عام من فلتان اللسان | تقليل النزاعات والخصومات بين الناس |
| “من استهزأ بالناس هان عليهم” | السخرية تضعف قيمة الشخص في نظر الآخرين | يؤدي إلى فقدان الاحترام والتقدير الاجتماعي |
| “شر الناس من إذا رضي مدح وإذا سخط قدح” | يفضح النفاق اللفظي وتقلبات اللسان حسب المصلحة | يؤدي إلى فقدان المصداقية وتدهور العلاقات |
الكلمة الجارحة في تربية الإمام علي لأبنائه
من الملفت أن الإمام علي لم يكن يُقدم هذه الأقوال في سياق وعظي فقط، بل استخدمها في تربية أبنائه وتلاميذه على التواضع وضبط النفس وحسن اللسان. فقد كتب لابنه الحسن في وصية عظيمة ما يلي:
“ولا تكن ممن يرجو الغفران بالإفراط في القول، ولا ممن يجترئ على الناس بالكلام ويحسبه ديناً.”
وفي هذه الوصية دعوة صريحة لتجنب الإسراف في القول والحديث الجارح الذي قد يُظن أحيانًا أنه “نصيحة” أو “أمر بالمعروف” بينما هو في حقيقته اعتداء لفظي.
بين الصمت والكلام: ميزان الإمام علي
يرى الإمام علي أن الصمت قد يكون في كثير من الأحيان أفضل من الكلام، خصوصًا إذا كان الكلام محتملاً للأذى، فقال:
“إذا تم العقل نقص الكلام.”
والمعنى أن العقل الناضج لا يتكلم كثيرًا، ولا يسمح للسانه بأن يسبق عقله، فكلما زاد العقل نقص الكلام، لأن الإنسان العاقل يعلم أن كل كلمة عليه حساب.
مواقف الإمام علي العملية ضد الكلام الجارح
لم يكن الإمام علي مجرد قائل للحكم، بل جسّدها في ممارساته اليومية، فكان لا يرد الإساءة بمثلها، بل يعفو ويصفح، ولا يجرح أحدًا ولو ظُلم، فعندما شُتم من أحد الخوارج وهو في المسجد قال له الإمام:
“إنما هي كلمة، ترد عليها بأحسن منها أو تسكت عنها.”
هذا الموقف يختصر المنهج الأخلاقي للإمام علي في التعامل مع الكلام الجارح، وهو الرد بالحسنى أو الامتناع عن الرد نهائيًا، تجنبًا للفتنة، واحترامًا للمكان والموقف.
الختام: الإمام علي والمجتمع الأخلاقي
ما يُستفاد من أقوال الإمام علي عن الكلام الجارح هو بناء مجتمع يقوم على الرحمة والاحترام المتبادل والوعي بكيفية استخدام الكلمة. فهو يعلمنا أن الكلمة مسؤولية، وأنها قادرة على بناء القلوب أو كسرها، على توحيد الأمة أو شق صفوفها.
فمن يقرأ حكم الإمام علي يجد فيها مدرسة متكاملة في “أخلاق القول”، مدرسة تُربي الإنسان على ضبط لسانه، احترام الآخرين، تجنب إيذاء القلوب، وتقديم الحكمة على الغضب والانفعال.
المصادر:
-
نهج البلاغة – للإمام علي بن أبي طالب
-
دراسات في الأخلاق العلوية – الشيخ محمد جواد مغنية
