أسباب نوبات الهلع

أسباب نوبات الهلع

نوبات الهلع تُعد من أكثر الاضطرابات النفسية إرباكًا وتعقيدًا، لما تسببه من أعراض جسدية ونفسية مفاجئة ومكثفة. وتتميز هذه النوبات بشعور جارف بالخوف أو الرعب، يصاحبه تسارع في ضربات القلب، وضيق في التنفس، ودوخة، وتعرّق، وشعور بالاختناق أو الانفصال عن الواقع. وعلى الرغم من أنها غالبًا ما تحدث دون مقدمات واضحة، فإن فهم العوامل المسببة لها يعتبر خطوة جوهرية في تشخيصها وعلاجها والوقاية منها.

يتناول هذا المقال، بصورة علمية معمقة وموسعة، الأسباب المحتملة لنوبات الهلع من منظور بيولوجي، نفسي، اجتماعي وبيئي، مع تسليط الضوء على الخلفية العصبية والفسيولوجية لهذه النوبات، والعوامل الوراثية والهرمونية، بالإضافة إلى العوامل السلوكية والضغوط الحياتية المزمنة.

أولًا: الأساس البيولوجي والعصبي لنوبات الهلع

تشير الأدبيات النفسية والطبية إلى أن نوبات الهلع ترتبط بخلل في عمل الدماغ، وخصوصًا في المناطق المرتبطة بتنظيم المشاعر والاستجابة للخطر.

اضطراب نشاط اللوزة الدماغية (Amygdala)

اللوزة الدماغية تلعب دورًا محوريًا في تفسير المحفزات الخطرة وإطلاق استجابة الخوف. في الأشخاص الذين يعانون من نوبات الهلع، يُعتقد أن اللوزة تكون مفرطة النشاط، مما يؤدي إلى إطلاق إنذارات كاذبة للخطر، حتى في حالات لا تستدعي ذلك، فيشعر الشخص فجأة بتهديد وشيك رغم عدم وجوده فعليًا.

خلل في الجهاز العصبي الذاتي

الجهاز العصبي الذاتي، وخصوصًا الجهاز السمبثاوي، مسؤول عن استجابة “الكر أو الفر” في الجسم. عندما يتعرض الفرد لمحفز مفاجئ، يقوم الجهاز السمبثاوي بتفعيل سلسلة من التغيرات الفسيولوجية تشمل تسارع النبض، ارتفاع ضغط الدم، وتوسيع الشعب الهوائية. في حالات نوبات الهلع، يحدث تنشيط مفرط لهذا الجهاز دون مبرر حقيقي، مما يؤدي إلى الأعراض المميزة للنوبة.

دور الناقلات العصبية

تُظهر الدراسات أن هناك علاقة بين نوبات الهلع واختلال في توازن بعض النواقل العصبية، مثل:

ثانيًا: العوامل النفسية والسلوكية المساهمة

الحساسية للقلق (Anxiety Sensitivity)

بعض الأشخاص لديهم ميل مفرط لتفسير الأعراض الجسدية العادية (مثل تسارع النبض) على أنها علامات على مرض خطير أو كارثة وشيكة. هذه الحساسية العالية تجعلهم أكثر عرضة لتجربة نوبات هلع استجابة لمجرد تغير بسيط في الحالة البدنية أو المزاجية.

نمط التفكير الاجتراري

الأشخاص الذين يعانون من نوبات الهلع يميلون إلى التركيز الزائد على الأفكار السلبية والتوقعات الكارثية، مثل “سوف أموت” أو “سوف أفقد السيطرة”، وهو ما يخلق حلقة مفرغة تغذي النوبة وتزيدها حدة.

التجارب النفسية المؤلمة

تاريخ من الصدمات النفسية، كالتعرض لحوادث خطيرة، أو العنف الجسدي أو الجنسي في مرحلة الطفولة، يعتبر عاملاً رئيسيًا يزيد من احتمالية الإصابة باضطرابات القلق عامة ونوبات الهلع بشكل خاص. الدماغ يحتفظ بهذه التجارب، وعندما يتعرض لمواقف مشابهة، ولو بشكل رمزي، يطلق استجابة هلع مشابهة لتلك التي حدثت في الموقف الأصلي.

ثالثًا: العوامل الوراثية والجينية

تشير الأبحاث إلى أن نوبات الهلع يمكن أن تنتقل وراثيًا ضمن العائلات. فوجود أحد الأقارب من الدرجة الأولى (كالوالدين أو الأشقاء) ممن يعانون من اضطرابات الهلع أو القلق، يزيد من خطر الإصابة بها.

أثبتت دراسات التوائم وجود معدل توافق مرتفع بين التوائم المتماثلة مقارنة بالتوائم غير المتماثلة، مما يشير إلى وجود تأثير جيني ملحوظ.

رابعًا: العوامل البيئية والاجتماعية

الضغوط الحياتية

العيش في بيئة مليئة بالضغوط، مثل المشاكل المادية المستمرة، البطالة، الصراعات الأسرية، أو فقدان شخص عزيز، يمكن أن يشكل خلفية خصبة لظهور نوبات الهلع، خاصة إذا ترافق مع غياب الدعم الاجتماعي أو المهارات النفسية للتكيف.

نمط الحياة

الإفراط في استهلاك الكافيين، أو النيكوتين، أو الكحول، يمكن أن يزيد من القابلية لنوبات الهلع، حيث تؤدي هذه المواد إلى تغيرات في الجهاز العصبي المركزي، وتؤثر على مستويات التوتر.

كذلك فإن قلة النوم المزمنة، وعدم ممارسة التمارين الرياضية، والاعتماد على نظام غذائي غير متوازن تؤثر على المزاج العام وتزيد من هشاشة الفرد النفسية.

خامسًا: الاضطرابات النفسية المصاحبة

اضطراب القلق العام

يعاني العديد من مرضى نوبات الهلع من اضطرابات قلق أخرى، خاصة القلق العام، والذي يتميز بقلق مفرط ومستمر حول مختلف جوانب الحياة. هذا النمط من التفكير يزيد من احتمالية تعرض الفرد لنوبات هلع مفاجئة.

اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)

الأشخاص الذين مرّوا بصدمات حادة يعانون من استجابات خوف مبالغ فيها. وقد يعيد الدماغ تشغيل هذه التجارب المؤلمة في شكل نوبات هلع. كما أن تكرار الكوابيس والمشاهد الذهنية المرتبطة بالحدث الصادم قد يكون محفزًا لتكرار النوبات.

الاكتئاب

يرتبط الاكتئاب غالبًا مع اضطرابات القلق ونوبات الهلع، خاصة في حال وجود مشاعر متكررة من اليأس أو عدم القيمة، حيث تضعف قدرة الفرد على مواجهة التحديات اليومية، مما يجعله أكثر عرضة للاستثارة العصبية والانهيارات المفاجئة.

سادسًا: الأسباب العضوية والطبية

مشكلات الغدة الدرقية

فرط نشاط الغدة الدرقية يؤدي إلى تسارع النبض، التعرق، والعصبية، وهي أعراض تتشابه مع نوبات الهلع، وقد تكون محفزًا لها عند بعض الأشخاص.

نقص السكر في الدم

انخفاض مستويات الجلوكوز بشكل مفاجئ في الجسم قد يؤدي إلى دوخة، ارتعاش، توتر وقلق مفاجئ، وهي أعراض قد تُفسّر على أنها نوبة هلع وتسبب نوبة فعلية نتيجة الخوف من هذه الأعراض.

اضطرابات القلب

بعض الأشخاص المصابين باضطرابات قلبية مثل تسرّع ضربات القلب فوق البطيني يعانون من أعراض مشابهة لنوبات الهلع، وقد تؤدي هذه الأعراض إلى رد فعل هلعي متكرر، خاصة في حالة عدم الوعي بالمشكلة العضوية.

سابعًا: النوبات الناتجة عن مثيرات ظرفية

الأماكن المغلقة أو المفتوحة

يعاني بعض الأفراد من ما يُعرف برهاب الساحة (Agoraphobia)، والذي يُترجم إلى نوبات هلع عند التواجد في أماكن يصعب مغادرتها أو طلب المساعدة فيها، مثل المواصلات العامة، أو المتاجر الكبيرة.

الحشود أو العزلة

كذلك قد تُثار النوبة لدى من يعانون من القلق الاجتماعي عند التحدث أمام الجمهور أو التواجد في تجمعات كبيرة. وفي المقابل، قد تظهر أيضًا في حالات العزلة والفراغ الحسي أو الاجتماعي.

ثامنًا: التأثير التراكمي للقلق المزمن

في كثير من الحالات، لا تأتي نوبة الهلع نتيجة حادث مفاجئ أو صدمة حادة، بل تكون نتاجًا لتراكم الضغط النفسي والقلق اليومي على مدى أسابيع أو أشهر. يتعرض الجهاز العصبي لضغط مستمر دون راحة أو تفريغ، حتى يصل إلى لحظة الانفجار، فتحدث النوبة.

هذا النوع من النوبات يكون غالبًا أكثر شدة وتكرارًا، ويصعب السيطرة عليه دون تدخل علاجي مناسب يشمل تقنيات التنفس، والعلاج المعرفي السلوكي، وأحيانًا الأدوية.

خلاصة الأسباب في جدول توضيحي

المصادر والمراجع:

1. American Psychiatric Association. Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (DSM-5). 5th ed. 2013.

2. Barlow, D.H. (2002). Anxiety and Its Disorders: The Nature and Treatment of Anxiety and Panic. 2nd ed. The Guilford Press.