أسباب قلة حليب الأم المرضع: تحليل علمي شامل للأسباب والعوامل المؤثرة

تُعتبر الرضاعة الطبيعية حجر الأساس في تغذية الرضّع خلال الأشهر الأولى من الحياة، إذ يوفر حليب الأم جميع العناصر الغذائية التي يحتاجها الطفل لنموه السليم، إلى جانب احتوائه على الأجسام المضادة التي تعزز مناعته وتحميه من الأمراض. ومع ذلك، تعاني بعض الأمهات من مشكلة شائعة تتمثل في قلة إدرار الحليب، وهي مشكلة قد تؤدي إلى القلق والتوتر وقد تدفع بالبعض إلى التوقف عن الرضاعة الطبيعية مبكرًا، مما ينعكس سلبًا على صحة الطفل والأم على حد سواء.

لفهم هذه الظاهرة بشكل شامل، لا بد من استعراض الأسباب الطبية والنفسية والبيئية والهرمونية التي قد تؤدي إلى انخفاض كمية الحليب لدى الأم المُرضع، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الانخفاض لا يرتبط بالضرورة بعدم قدرة الأم على الإرضاع وإنما قد يكون نتيجة لعوامل قابلة للعلاج والتعديل في معظم الأحيان.

العوامل الفسيولوجية والهرمونية المؤثرة في إدرار الحليب

إدرار الحليب هو عملية معقدة تتحكم بها منظومة هرمونية دقيقة. يبدأ إنتاج الحليب فعليًا بعد الولادة عندما تنخفض مستويات هرمون البروجستيرون وترتفع مستويات البرولاكتين، وهو الهرمون المسؤول مباشرة عن تحفيز الغدد اللبنية على إفراز الحليب. في حال حدوث خلل في هذه المنظومة، فإن ذلك قد يؤدي إلى ضعف في إدرار الحليب. ومن أبرز الأسباب الفسيولوجية ما يلي:

اضطرابات هرمونية

• قصور الغدة الدرقية: انخفاض نشاط الغدة الدرقية يؤدي إلى نقص في إنتاج هرمونات أساسية لها دور في تنظيم التمثيل الغذائي، وبالتالي قد يؤثر على إدرار الحليب.

• نقص البرولاكتين: هذا الهرمون هو المحفز الرئيسي لإنتاج الحليب. نقص مستواه لأسباب مختلفة (مثل تناول أدوية معينة أو وجود أورام في الغدة النخامية) يمكن أن يؤدي إلى انخفاض ملحوظ في كمية الحليب.

• اضطرابات الغدة النخامية: الغدة النخامية هي المسؤولة عن إفراز البرولاكتين. أي خلل في وظائفها كوجود أورام صغيرة (مثل البرولاكتينوما) قد يعوق قدرة الجسم على إنتاج الحليب.

ضعف أو تأخر في نزول الحليب (Lactogenesis II)

عملية نزول الحليب تتأخر في بعض الحالات أكثر من 72 ساعة بعد الولادة، وهو ما يعرف باسم تأخر مرحلة الإدرار الثانية. غالبًا ما يكون السبب في ذلك:

• الولادة القيصرية

• فقدان دم حاد أثناء الولادة أو بعد الولادة (نقص تروية الغدة النخامية، أو متلازمة شيهان)

• احتباس المشيمة أو جزء منها

• الولادة المبكرة، حيث تكون الغدد اللبنية غير مكتملة النمو

العوامل السلوكية والممارسات اليومية

بعض العادات أو التصرفات الخاطئة في الأيام أو الأسابيع الأولى بعد الولادة قد تؤثر سلبًا على كمية الحليب التي تنتجها الأم، ومن أهمها:

عدم الرضاعة بشكل متكرر وكافٍ

إدرار الحليب يعتمد بشكل أساسي على مبدأ “العرض والطلب”، أي أن ثدي الأم ينتج كمية أكبر من الحليب كلما زادت عدد مرات الرضاعة. في حال كانت الأم لا ترضع طفلها بانتظام، أو تعتمد على رضاعة صناعية مكمّلة دون ضرورة طبية، فإن ذلك يؤدي تدريجيًا إلى انخفاض إنتاج الحليب.

وضعيات الرضاعة غير الصحيحة

إذا لم يتمكن الطفل من الالتقام الجيد للحلمة والهالة المحيطة بها، فإن ذلك قد يؤدي إلى عدم تحفيز الثدي بشكل كافٍ لإنتاج الحليب. وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى شعور الأم بأن الحليب غير كافٍ، رغم أن المشكلة تكمن في التقنية وليس في القدرة على الإنتاج.

استخدام اللهاية أو الزجاجة في وقت مبكر

استخدام الزجاجات أو اللهاية قد يسبب ما يُعرف بـ”ارتباك الحلمة”، حيث يجد الطفل صعوبة في الانتقال بين الرضاعة الطبيعية والرضاعة من الزجاجة، مما يقلل من فعالية الرضاعة الطبيعية ويؤدي إلى انخفاض في التحفيز اللازم لإنتاج الحليب.

قصر فترة الرضاعة

إيقاف الرضاعة بسرعة وعدم السماح للطفل بإفراغ الثدي تمامًا قد يؤدي إلى إرسال إشارات للجسم بأن الحليب غير مطلوب بكمية كبيرة، مما يؤدي إلى تقليل الإنتاج مع الوقت.

العوامل النفسية والتوتر العصبي

تشير العديد من الدراسات إلى أن العوامل النفسية تلعب دورًا حاسمًا في إدرار الحليب، حيث إن مشاعر التوتر، القلق، الاكتئاب، أو الشعور بعدم الكفاءة يمكن أن تؤدي إلى انخفاض إفراز هرمون الأوكسيتوسين، وهو المسؤول عن طرد الحليب من الثدي. من أهم المؤثرات النفسية:

• اكتئاب ما بعد الولادة: وهو اضطراب نفسي شائع يصيب بعض الأمهات ويؤثر سلبًا على الرغبة في الإرضاع والقدرة على التواصل مع الرضيع.

• الضغوط الاجتماعية أو العائلية: غياب الدعم من الشريك أو الأسرة، أو وجود بيئة سلبية قد تؤثر على الحالة النفسية للأم وبالتالي تقلل من إفراز الحليب.

• نقص الثقة بالنفس: شعور الأم بأنها غير قادرة على تلبية احتياجات رضيعها قد يخلق دائرة مفرغة من القلق ونقص الإدرار.

الأسباب الطبية والمرتبطة بحالة الرضيع

أحيانًا يكون سبب انخفاض كمية الحليب ناتجًا عن حالة طبية لدى الرضيع تمنعه من الرضاعة بشكل فعّال، أو تعوق قدرته على تحفيز الثدي لإنتاج الحليب. وتشمل هذه الحالات:

• الرضع الخدّج (الولادة المبكرة): هؤلاء الرضع غالبًا ما تكون عضلات الفم لديهم غير مكتملة القوة، مما يؤدي إلى ضعف في المص والتقاط الحلمة.

• مشاكل تشريحية في الفم: مثل وجود ربط في اللسان (Tongue-tie) أو سقف حلق مشقوق، مما يجعل المص صعبًا وغير فعال.

• الخمول أو المرض: بعض الأطفال المصابين بأمراض أو الذين خضعوا لإجراءات طبية قد يكون لديهم خمول في الأيام الأولى بعد الولادة، مما يؤدي إلى قلة المص وبالتالي انخفاض الإدرار.

الأدوية والمكملات وتأثيرها على الحليب

بعض الأدوية التي قد تتناولها الأم بعد الولادة تؤثر سلبًا على إدرار الحليب. ومن بين هذه الأدوية:

• مضادات الهيستامين (مثل ديفينهيدرامين)

• أدوية الاحتقان مثل سودوإيفيدرين

• أدوية منع الحمل التي تحتوي على الإستروجين

• بعض مضادات الاكتئاب أو أدوية الصرع

ينبغي على الأمهات دائمًا مراجعة الطبيب أو الصيدلي قبل تناول أي دواء أثناء فترة الرضاعة.

العوامل الغذائية والصحية العامة

الحالة الصحية العامة للأم تلعب دورًا في إنتاج الحليب. من أبرز العوامل:

• سوء التغذية أو نقص السعرات الحرارية: عدم تناول كميات كافية من الطعام يؤثر على قدرة الجسم على إنتاج الحليب.

• الجفاف: نقص شرب السوائل يؤدي إلى انخفاض في إنتاج الحليب.

• الأنيميا أو نقص الحديد: أحد أكثر الأسباب الشائعة التي تؤثر على الطاقة العامة للأم وقدرتها على إنتاج الحليب.

• الإجهاد البدني والنوم غير الكافي: يؤدي إلى إنهاك الجسم وخلل في التوازن الهرموني المطلوب للإدرار.

جدول بالعوامل المؤثرة في قلة حليب الأم المرضع

الخاتمة

قلة حليب الأم المرضع هي ظاهرة متعددة الأسباب تتقاطع فيها العوامل الهرمونية، النفسية، السلوكية، والصحية. الإدراك المبكر للمشكلة والتعامل معها بطرق علمية مدروسة يمكن أن يساهم في تصحيح المسار وتعزيز قدرة الأم على الرضاعة الطبيعية. تلعب التوعية دورًا جوهريًا في مساعدة الأمهات على تخطي هذه الصعوبات، إلى جانب الدعم النفسي والطبي من المحيطين بهن.

المراجع:

1. World Health Organization. “Infant and Young Child Feeding: Model Chapter for Textbooks for Medical Students and Allied Health Professionals.” WHO, 2009.

2. Lawrence, Ruth A., and Robert M. Lawrence. Breastfeeding: A Guide for the Medical Profession. Elsevier Health Sciences, 2015.