أسباب جرثومة الدم: نظرة موسعة في الأسباب والآليات والأنواع

تُعد جرثومة الدم أو ما يُعرف علمياً بتجرثم الدم (Bacteremia) من الحالات الطبية البالغة الخطورة والتي قد تتطور إلى مضاعفات تهدد حياة الإنسان في حال لم تُشخّص وتُعالج بسرعة. يشير مصطلح “جرثومة الدم” إلى وجود بكتيريا في مجرى الدم، وهي بيئة معقمة بطبيعتها. دخول البكتيريا إلى الدم لا يعني دائمًا الإصابة بعدوى خطيرة، لكنه قد يؤدي في حالات عديدة إلى مضاعفات جسيمة مثل تعفن الدم (Sepsis) أو الصدمة الإنتانية (Septic Shock)، وهي حالات تتطلب تدخلاً طبياً فورياً.

ترتبط جرثومة الدم بعدة أسباب تتراوح بين العوامل المرضية البكتيرية والإجراءات الطبية التي تُجرى للمريض، وتختلف بحسب الفئة العمرية، الحالة المناعية، ونوع البكتيريا المسببة. هذا المقال يتناول بشكل موسع الأسباب المختلفة التي تقف خلف تجرثم الدم، مع تحليل شامل للعوامل المساهمة والآليات البيولوجية التي تسمح للبكتيريا باختراق الجهاز الدوري.

أولاً: التصنيف العام لجرثومة الدم

لفهم الأسباب، من الضروري التمييز بين الأنواع المختلفة لجرثومة الدم بناءً على مصدرها ونوعها ومدتها، وتشمل:

• جرثومة الدم العارضة (Transient Bacteremia): تحدث نتيجة دخول مؤقت للبكتيريا إلى مجرى الدم، وغالبًا ما يتعامل معها الجهاز المناعي دون أعراض تُذكر.

• جرثومة الدم المستمرة (Persistent Bacteremia): تستمر لفترة طويلة نتيجة لعدوى موضعية مزمنة تُفرز بكتيريا بشكل مستمر في الدم.

• جرثومة الدم الأولية: تحدث دون وجود مصدر ظاهر واضح.

• جرثومة الدم الثانوية: تنجم عن انتقال البكتيريا من عدوى موضعية مثل التهاب رئوي، أو التهاب المسالك البولية، أو التهاب الجلد.

ثانياً: الأسباب الرئيسية لجرثومة الدم

1. العدوى الموضعية وانتقالها إلى الدم

يُعد هذا السبب من أكثر العوامل شيوعاً. العدوى التي تبدأ في عضو محدد يمكن أن تنتقل إلى الدم في حال ضعف المناعة أو تأخر العلاج.

أ‌) التهاب الرئة (Pneumonia)

عندما تُصيب البكتيريا الرئتين وتسبب التهاباً حاداً، يمكن أن تتغلغل إلى الشعيرات الدموية وتنتقل إلى الدورة الدموية، مما يؤدي إلى جرثومة الدم.

ب‌) التهاب المسالك البولية (UTIs)

يُعتبر من أكثر الأسباب شيوعاً لدى النساء وكبار السن. العدوى غير المعالجة قد تمتد من المثانة أو الكليتين إلى الدم.

ت‌) التهابات الجلد والنسيج الخلوي (Cellulitis)

الجروح المفتوحة، التقرحات، أو الالتهابات الجلدية العميقة قد تُسهّل دخول البكتيريا إلى مجرى الدم خاصةً إذا كان المريض مصاباً بداء السكري أو ضعف في الجهاز المناعي.

ث‌) التهابات الجهاز الهضمي

تشمل حالات مثل التهاب الزائدة الدودية، التهاب الرتوج، أو التهاب القولون. غالباً ما تنطوي هذه الحالات على تمزق الأغشية المخاطية، مما يسمح للبكتيريا بالانتقال إلى الدم.

2. الإجراءات الطبية والجراحية

تلعب التدخلات الطبية دوراً هاماً في التسبب بجرثومة الدم، خصوصاً في المستشفيات ومراكز الرعاية الحرجة.

أ‌) القسطرة الوريدية المركزية والطرفية

تُستخدم القساطر لتوصيل السوائل والأدوية، لكنها قد تُصبح بيئة مناسبة لتكاثر البكتيريا إن لم تُعقم بشكل صحيح. دخول البكتيريا من خلال القسطرة قد يؤدي إلى جرثومة الدم المرتبطة بالرعاية الصحية.

ب‌) العمليات الجراحية

خاصة الجراحات التي تشمل الأمعاء، الرئتين، أو القلب. قد تؤدي لانتقال البكتيريا إلى الدم، خاصة إذا لم تُراعى معايير التعقيم.

ت‌) الغسيل الكلوي

مرضى الغسيل الكلوي معرضون بدرجة عالية لتجرثم الدم بسبب الحاجة إلى استخدام قساطر دائمة، بالإضافة إلى تكرار الإجراءات الدموية.

ث‌) التنبيب الرغامي أو التهوية الاصطناعية

تُعد مصدرًا شائعًا لعدوى الجهاز التنفسي التي يمكن أن تؤدي إلى تجرثم الدم، خصوصًا في وحدات العناية المركزة.

3. ضعف الجهاز المناعي

الحالات التي تضعف مناعة الجسم ترفع خطر حدوث جرثومة الدم بشكل كبير، حيث لا يتمكن الجهاز المناعي من مقاومة البكتيريا بشكل فعال.

أ‌) مرضى السرطان

العلاج الكيميائي والإشعاعي يضعف الجهاز المناعي، كما أن اختراق الجلد والأغشية المخاطية يجعلهم عرضة للعدوى البكتيرية.

ب‌) فيروس نقص المناعة البشرية (HIV)

المرضى المصابون بالإيدز يعانون من تثبيط حاد في المناعة، مما يجعلهم أكثر عرضة للعدوى الانتهازية التي قد تنتقل إلى الدم.

ت‌) مرضى السكري

ارتفاع مستويات السكر في الدم يخلق بيئة خصبة لنمو البكتيريا، كما أن ضعف التروية الدموية يؤدي إلى تأخر الشفاء وزيادة فرصة العدوى.

4. استخدام الأدوية المثبطة للمناعة

مرضى زراعة الأعضاء، والذين يتناولون أدوية مثبطة للمناعة مثل الكورتيكوستيرويدات أو مثبطات TNF، معرضون بشكل كبير لعدوى جرثومية تنتقل بسهولة إلى الدم.

5. أمراض الجهاز الهضمي المؤدية لتسرب البكتيريا

الأمراض المزمنة مثل داء كرون أو التهاب القولون التقرحي تضعف الحاجز المعوي، مما يسمح للبكتيريا المعوية بالدخول إلى الدورة الدموية.

6. الولادة والإجهاض

في حالات الولادة غير النظيفة أو الإجهاض غير الآمن، قد تدخل البكتيريا إلى الرحم وتنتقل إلى الدم، خاصة عند تمزق الأغشية أو وجود نسيج ميت.

7. التهابات صمامات القلب (Endocarditis)

تعد من أخطر الأسباب المستمرة لتجرثم الدم. تنشأ غالبًا نتيجة عدوى بكتيرية مثل المكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus) التي تلتصق بصمامات القلب، وتطلق البكتيريا إلى الدم بشكل مزمن.

ثالثاً: البكتيريا المسببة لجرثومة الدم

نوع البكتيريا يؤثر بشكل كبير على شدة الحالة، ومن أشهر السلالات المرتبطة بتجرثم الدم:

رابعاً: الفئات الأكثر عرضة للإصابة بجرثومة الدم

• كبار السن، خاصة فوق عمر 65 عامًا

• الأطفال حديثو الولادة، خاصة في حالات الولادة المبكرة

• مرضى السرطان

• مرضى نقص المناعة المكتسبة

• مرضى زراعة الأعضاء

• مرضى السكري وارتفاع ضغط الدم

• مرضى الغسيل الكلوي

خامساً: العوامل المؤهبة لتطور جرثومة الدم إلى تعفن الدم

رغم أن بعض حالات تجرثم الدم قد تمر دون أعراض، فإن بعضها قد يتطور بسرعة إلى تعفن الدم نتيجة عوامل مثل:

• تأخر التشخيص والعلاج

• وجود سلالات بكتيرية شديدة المقاومة

• استخدام مضادات حيوية غير مناسبة

• قلة النظافة في الرعاية الصحية

• استخدام أدوات طبية ملوثة

سادساً: الوقاية من جرثومة الدم

للوقاية من هذه الحالة، يُوصى باتباع إجراءات صارمة تشمل:

• تعقيم الأدوات الطبية والجراحية

• تقليل استخدام القساطر عند الإمكان

• العلاج المبكر لأي عدوى موضعية

• مراقبة المرضى عاليي الخطورة

• الالتزام بقواعد مكافحة العدوى داخل المستشفيات

المراجع العلمية

1. Mandell, Douglas, and Bennett’s Principles and Practice of Infectious Diseases, 9th edition, Elsevier.

2. CDC – Centers for Disease Control and Prevention, Sepsis and Bacteremia Guidelines.

هذا المقال يغطي الجوانب الأساسية والمتقدمة حول أسباب جرثومة الدم بشكل مفصل، ويوضح كيف تتداخل العوامل البيولوجية والسريرية والإجرائية في توليد هذه الحالة المرضية الحرجة، مع التركيز على أهمية التشخيص المبكر والوقاية في تفادي المضاعفات.