لماذا نتراجع ويتقدّم غيرنا؟ تحليل شامل للأسباب البنيوية والثقافية والاقتصادية

في خضم سباق الأمم نحو التقدم والازدهار، تتفاوت المجتمعات والدول في سرعتها نحو بلوغ مراتب الريادة العلمية والاقتصادية والثقافية. ففي حين تقفز بعض الدول خطوات جبّارة في مضمار التطور، تتراجع أخرى أو تراوح مكانها في حلقة مفرغة من التخلف والعجز عن اللحاق بالركب العالمي. تبرز هنا إشكالية كبرى: لماذا نتراجع ويتقدّم غيرنا؟ سؤال لا ينبغي التعامل معه بعفوية أو تبريرات سطحية، بل يجب تفكيكه وتحليله وفق مقاربة علمية شاملة تراعي العوامل التاريخية، البنيوية، التعليمية، الثقافية، والسياسية التي تحدد موقع الأمم في خارطة الحضارة.

يتجاوز هذا المقال التحليل الظاهري ليغوص في أعماق الأسباب الكامنة خلف حالة التراجع المزمنة التي تعاني منها العديد من الدول العربية والإسلامية، في مقابل صعود لافت لأمم أخرى على مختلف الأصعدة، رغم امتلاكنا للإمكانات البشرية والمادية التي – لو حُسن توظيفها – لكان بالإمكان تغيير مسار التاريخ الحديث.

أولاً: أزمة الرؤية والإرادة السياسية

من أبرز الأسباب التي تفسر تأخر مجتمعاتنا هو غياب الرؤية الاستراتيجية الشاملة لدى صناع القرار. فبينما تتبنى الدول المتقدمة خططاً تنموية طويلة الأمد مبنية على الابتكار والتطور المعرفي، نجد كثيراً من الأنظمة العربية تعيش حالة من التخبط والعشوائية في السياسات، تركّز على الآنيّ والمؤقت وتتجاهل بناء أسس مستدامة للنمو والتقدم. تفتقر هذه الدول إلى مشاريع قومية حقيقية تصب في مصلحة تنمية الإنسان والعقل، وتغلب على توجهاتها نزعة استهلاكية ومظهرية في كثير من الأحيان.

الإرادة السياسية تُعدّ شرطاً أولياً للتحول الحضاري. فحينما قررت دول مثل سنغافورة أو كوريا الجنوبية الخروج من مستنقع الفقر، كانت نقطة الانطلاق هي توافر قيادة سياسية تضع التحديث الشامل كأولوية غير قابلة للتأجيل، وتُسخّر الموارد والطاقات لتكريس هذا التوجه.

ثانياً: أزمة التعليم والمعرفة

التعليم هو العمود الفقري لأي نهضة حضارية. ومع ذلك، فإن غالبية أنظمتنا التعليمية تعاني من التخلف المزمن، سواء على مستوى المحتوى أو الأساليب أو المخرجات. لا يزال التعليم في كثير من الدول العربية تقليدياً، يعتمد على التلقين والحفظ بدلاً من الفهم والنقد والإبداع، مما يؤدي إلى إنتاج أجيال غير قادرة على التفكير التحليلي أو على الإبداع أو على التعامل مع معطيات العصر الرقمي.

تُظهر مؤشرات التعليم العالمي أن أغلب دولنا تحتل مراكز متأخرة في معايير الجودة التعليمية، كما أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي لا تكاد تُذكر مقارنة بما تنفقه الدول الصناعية أو حتى بعض الدول النامية. يُعتبر هذا مؤشراً خطيراً على مدى تدنّي الاهتمام ببناء رأس المال المعرفي، وهو الركيزة الأساسية في أي نهضة اقتصادية أو حضارية.

ثالثاً: التخلف التكنولوجي والرقمي

في زمن الثورة الصناعية الرابعة والتحولات الرقمية الكبرى، تعاني مجتمعاتنا من فجوة تكنولوجية شاسعة تفصلنا عن العالم المتقدم. فالتحول الرقمي لا يزال في مهده، والاعتماد على التكنولوجيا في الإدارة والاقتصاد محدود للغاية. وبالرغم من وجود بنى تحتية رقمية نسبية في بعض الدول الخليجية، إلا أن الاستخدام الأمثل لهذه البنية في دعم التعليم، البحث العلمي، الصحة، والصناعة، ما يزال ضعيفاً.

السبب لا يكمن فقط في نقص الموارد أو المهارات، بل أيضاً في غياب الإرادة الجادة لرقمنة الدولة والمجتمع وتحويل التكنولوجيا إلى أداة إنتاج حقيقية، بدلاً من كونها وسيلة استهلاك أو ترف حضاري. في المقابل، نجحت دول مثل الهند وفيتنام وماليزيا في تسخير الثورة الرقمية لإحداث قفزة نوعية في بنيتها الاقتصادية والتعليمية.

رابعاً: البيروقراطية والفساد الإداري

تُعد البيروقراطية العقيمة واحدة من أبرز المعوقات أمام التنمية والتقدم في المجتمعات المتأخرة. فالروتين القاتل، والفساد المستشري، وضعف الحوكمة، كلها عوامل تؤدي إلى إهدار الوقت والموارد وعرقلة المشاريع، سواء كانت اقتصادية أو تعليمية أو صحية. ففي كثير من الدول، لا تُدار المؤسسات بالكفاءة المطلوبة، ويغيب عنها نظام المساءلة والشفافية، مما يفتح الباب أمام المحسوبية والرشوة وسوء الإدارة.

الفساد الإداري هو معول هدم لأي محاولة للنهوض، لأنه يُفرغ المؤسسات من مضمونها ويحوّلها إلى أدوات تخدم المصالح الضيقة بدلاً من المصلحة العامة. وقد أظهرت تقارير مثل مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية أن أغلب الدول العربية تُصنّف ضمن الفئات الأعلى فساداً، وهو ما يعكس أزمة عميقة في نظم الرقابة والمساءلة.

خامساً: تراجع القيم الثقافية المرتبطة بالإبداع والعمل

يعيش العالم العربي في أزمة قيم، تتجلى في انحسار ثقافة العمل الجاد، وروح المبادرة، والالتزام بالإتقان والإبداع. فبدلاً من تشجيع المبادرة الفردية وتقدير العمل المنتج، يُغلب في كثير من المجتمعات منطق التواكل والاعتماد على الوظائف الحكومية الريعية، مما يقتل روح المنافسة ويعزز من السلوك الاتكالي.

كما أن المجتمعات التي تتقدم هي تلك التي تعلي من قيمة العقل والعلم والعمل، وتُعلي من شأن الكفاءة لا القرابة أو الولاء السياسي أو الانتماء الطائفي. وفي كثير من الدول العربية، نجد أن فرص التقدم والارتقاء لا ترتبط غالباً بالجدارة، بل بعوامل غير موضوعية، مما يُضعف من الحافزية ويُحبط الكفاءات.

سادساً: التبعية الاقتصادية والجمود الإنتاجي

يُعد الاعتماد المفرط على الريع النفطي أو المساعدات الخارجية من الأسباب البنيوية التي أدت إلى هشاشة اقتصاداتنا. ففي الوقت الذي تسعى فيه الدول المتقدمة إلى تنويع اقتصادها وتحفيز الصناعات التكنولوجية، لا تزال العديد من دولنا تعتمد على تصدير المواد الخام أو المنتجات الأولية دون قيمة مضافة حقيقية، مع ضعف واضح في قطاعات التصنيع، الزراعة، والابتكار.

إن الاقتصاد الريعي يكرّس ثقافة الاستهلاك ويقضي على روح الإنتاج والإبداع. كما أنه يجعل الدولة رهينة للتقلبات في الأسواق العالمية، ما يؤدي إلى تقلبات حادة في معدلات النمو ويُضعف من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

سابعاً: غياب الحرية الأكاديمية والفكرية

في الدول التي تتقدم، تشكل حرية التعبير والبحث العلمي ركيزة أساسية للنهضة. فالعقل لا يمكنه أن ينتج أفكاراً خلاقة في مناخ من القمع والمراقبة. إلا أن كثيراً من المجتمعات العربية تعاني من تضييق على الحريات الفكرية، وقمع للآراء المخالفة، وتكميم للصحافة المستقلة، مما يؤدي إلى تكلّس الحياة الفكرية والثقافية.

حرية التفكير ضرورية لتوليد المعرفة وتطويرها. وفي غياب هذا المناخ، تتراجع الجامعات، وتضعف مراكز الأبحاث، ويُقتل الإبداع في مهده. في المقابل، فإن كل الدول التي حققت إنجازات كبرى في مجال التكنولوجيا والمعرفة، تبنت سياسات تشجع على حرية الرأي والجدل العلمي والاختلاف الخلاق.

ثامناً: دور الإعلام في تكريس الرداءة

يلعب الإعلام دوراً محورياً في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام. ومع الأسف، فإن كثيراً من وسائل الإعلام العربية تكرّس ثقافة التفاهة والاستعراض، وتبتعد عن التثقيف والتنوير. ويغلب على المحتوى الإعلامي الطابع الترفيهي السطحي على حساب البرامج الجادة المعرفية أو التحليلية.

هذا النمط من الإعلام يُسهم في تهميش القضايا الجوهرية، ويُكرّس ذهنية استهلاكية لا تحفّز على التفكير أو التحليل. في المقابل، تنفق الدول المتقدمة ميزانيات ضخمة على إنتاج محتوى ثقافي وتربوي راقٍ، يُساهم في تعزيز القيم الوطنية وبناء مواطن مسؤول ومطلع.

جدول توضيحي للمقارنة بين مجتمعات متقدمة ومتأخرة وفق المؤشرات البنيوية:

تاسعاً: الانقسام الداخلي والصراعات السياسية

تعاني العديد من الدول العربية من انقسامات سياسية وطائفية حادة، تؤدي إلى صراعات مزمنة تستهلك الموارد وتُجهض فرص التنمية. فمن الحروب الأهلية إلى النزاعات القبلية والمذهبية، تضيع الطاقات والجهود في معارك داخلية لا تخدم سوى أجندات ضيقة.

هذه الصراعات تُبعد المجتمعات عن أولوياتها الحقيقية، وتُضعف من تماسكها الاجتماعي، وتُشتت طاقاتها نحو المواجهة بدل التقدم. في حين أن الدول المتقدمة تنعم، في الغالب، بمناخ من الاستقرار السياسي والاجتماعي، مما يُعزز من قدرة الدولة على التخطيط والتنفيذ.

عاشراً: ضعف الهوية الثقافية الجامعة

من الأسباب العميقة التي تُسهم في التراجع هو غياب مشروع حضاري ثقافي جامع، قادر على توحيد الطاقات وتوجيهها نحو أهداف كبرى. فغياب التصور الجماعي لهوية حضارية مستقبلية، يجعل المجتمعات تعيش في الماضي أو تُستلب من قبل نماذج خارجية لا تراعي خصوصياتها.

الأمم التي تنهض هي تلك التي تجمع بين الأصالة والحداثة، فتستفيد من تراثها الثقافي، وتدمجه في مشروع حداثي عقلاني قائم على المعرفة والانفتاح. أما في المجتمعات التي تتراجع، فتُهمّش الثقافة أو تُستغل سياسياً، ويُهمّش دور النخب الفكرية لصالح رموز تكرّس الجهل والخرافة.

المراجع:

• الأمم المتحدة، برنامج التنمية البشرية، تقارير التنمية العالمية (2023).

• البنك الدولي، مؤشرات الحوكمة العالمية وبيانات التعليم والتنمية المستدامة.