أسباب انفصام الشخصية

أسباب انفصام الشخصية

يُعد انفصام الشخصية، أو ما يُعرف بالفُصام (Schizophrenia)، أحد أكثر الاضطرابات النفسية تعقيداً وتأثيراً على السلوك البشري والوظائف العقلية. يُصنَّف ضمن الاضطرابات الذهانية التي تُغيّر إدراك الفرد للواقع، حيث تتداخل فيه مجموعة من الأعراض التي تشمل الهلوسات، والأوهام، واضطرابات التفكير، والانفعالات، والسلوك الاجتماعي، مما يؤدي إلى تدهور كبير في نوعية حياة المريض. ولا يزال انفصام الشخصية يمثل تحدياً هائلاً للعلماء والأطباء النفسيين، ليس فقط بسبب تنوع أعراضه، بل أيضاً لتشابك أسبابه وتعدد العوامل المتدخلة في نشوئه.

هذا المقال يُركّز بعمق على الأسباب المحتملة لانفصام الشخصية، بالاستناد إلى الأبحاث العلمية الحديثة والنظريات النفسية والبيولوجية والسلوكية، ويستعرض الخلفيات الوراثية، والدماغية، والبيئية، والنفسية، والاجتماعية التي تساهم مجتمعة في تطور هذا الاضطراب.

الأسباب الوراثية والجينية

تلعب الوراثة دوراً مركزياً في الإصابة بانفصام الشخصية. تشير الدراسات إلى أن الفُصام هو اضطراب متعدد العوامل الوراثية، أي أنه لا ينتج عن جين واحد بل عن تفاعلات معقدة بين عدة جينات:

• وجود تاريخ عائلي: إذا كان أحد الوالدين مصاباً بالفُصام، فإن احتمالية إصابة الأبناء بالاضطراب تتراوح بين 10% إلى 15%، بينما ترتفع إلى حوالي 40% إذا كان كلا الوالدين مصابين. أما التوائم المتطابقة، فتصل نسبة الإصابة لدى التوأم الثاني إلى 50% تقريباً إذا أُصيب الأول.

• الجينات المرشحة: كشفت دراسات الجينوم البشري عن ارتباط بعض الجينات مثل DISC1 وNRG1 وCOMT بزيادة قابلية الإصابة بالفُصام، حيث تساهم في تنظيم الاتصال العصبي في الدماغ والتفاعل الكيميائي بين الناقلات العصبية.

• طفرات جينية نادرة: أظهرت الأبحاث أيضاً أن بعض الطفرات في الجينات التي تتحكم في تطور الدماغ قد تلعب دوراً حاسماً، خاصة الطفرات المؤثرة على النمو العصبي في مراحل الطفولة المبكرة.

لكن من المهم التوضيح أن العوامل الوراثية لا تعمل في فراغ، بل تحتاج إلى محفزات بيئية ونفسية لتفعيلها، مما يضع الأساس لنظرية التفاعل بين الجينات والبيئة.

التغيرات الدماغية والبيولوجية

تُظهر دراسات التصوير العصبي أن هناك اختلافات مميزة في بنية ووظيفة الدماغ لدى مرضى الفُصام:

• الاختلاف في بنية الدماغ: بعض المرضى يعانون من تضخم البطينات الدماغية، وهو ما يدل على فقدان نسيج دماغي في القشرة المخية، خاصة في الفص الصدغي والفص الجبهي. هذه المناطق مرتبطة بالذاكرة، والتفكير، واتخاذ القرار، وتنظيم الانفعالات.

• خلل في الناقلات العصبية: يعتبر الدوبامين من أبرز المواد الكيميائية المرتبطة بالفُصام. ترتبط أعراض الفُصام الإيجابية (مثل الهلوسات والأوهام) بزيادة إفراز الدوبامين في بعض مناطق الدماغ، بينما ترتبط الأعراض السلبية (كاللامبالاة وانعدام الدافعية) بانخفاضه في مناطق أخرى. كما يشير بعض الباحثين إلى دور السيروتونين والغلوتامات في التسبب بالاضطراب.

• الوظائف العصبية التنفيذية: يعاني مرضى الفُصام من ضعف في المهام المعرفية العليا مثل الانتباه، والذاكرة العاملة، والقدرة على التنظيم والتخطيط. وترتبط هذه الوظائف عادة بنشاط الفص الجبهي، الذي يُظهر نشاطاً غير طبيعي في كثير من حالات الفُصام.

العوامل النفسية والتطورية

تلعب العوامل النفسية والمرتبطة بتطور الفرد خلال مراحل الطفولة والمراهقة دوراً مؤثراً في تطور الفُصام، ومنها:

• الضغوط النفسية المبكرة: تشير بعض النظريات إلى أن التعرض لصدمات نفسية حادة في الطفولة، مثل الاعتداء الجنسي أو الجسدي، أو فقدان أحد الوالدين، قد يزيد من قابلية الفرد للإصابة بالفُصام لاحقاً، خاصة إذا توفرت لديه الاستعدادات الجينية.

• العلاقات الأسرية المضطربة: بيئة أسرية تتسم بالتوتر الشديد، أو التناقض في الرسائل العاطفية، أو النقد المستمر، قد تعزز من نوبات المرض لدى الأشخاص المعرضين للإصابة، وهو ما يعرف بـ”نظرية التعبير العاطفي العالي”.

• نمط التعلق غير الآمن: يشير بعض علماء النفس إلى أن أنماط التعلق غير الآمنة في الطفولة، والتي تُبنى بين الطفل ومقدّمي الرعاية، يمكن أن تؤثر على تطور الهوية والانفصال عن الواقع لاحقاً، مما يسهل تطور الاضطرابات الذهانية.

العوامل البيئية والاجتماعية

تُعد البيئة المحيطة عاملاً حاسماً في بروز أعراض الفُصام، وتتضمن:

• الضغوط الحياتية الشديدة: مثل الفقر، والبطالة، والعزلة الاجتماعية، والتمييز العنصري أو الثقافي، كلها عوامل يمكن أن تؤثر على الصحة النفسية وتزيد من خطر الاضطرابات الذهانية.

• العيش في المدن الكبرى: تشير دراسات وبائية إلى أن معدلات الفُصام أعلى في المناطق الحضرية منها في المناطق الريفية، ويُعتقد أن الضغوط الاجتماعية، وارتفاع معدلات الجريمة، وكثافة السكان تسهم في ذلك.

• الهجرة والاندماج الثقافي: تزيد معدلات الإصابة بالفُصام بين المهاجرين، خاصة الذين يواجهون صعوبات في الاندماج أو يعانون من التمييز، مما يشير إلى أثر التوتر الاجتماعي والثقافي في تطور المرض.

العوامل المتعلقة بالحمل والولادة

كشفت أبحاث حديثة عن ارتباط بعض العوامل السابقة للولادة أو المحيطة بها بزيادة خطر الإصابة بالفُصام:

• التعرض للعدوى الفيروسية أثناء الحمل: مثل الإنفلونزا، أو الحصبة الألمانية في الثلث الثاني من الحمل، قد تؤثر على نمو دماغ الجنين وتزيد من خطر الإصابة لاحقاً.

• سوء التغذية أثناء الحمل: نقص العناصر الغذائية الحيوية كحمض الفوليك، وفيتامين D، قد يؤدي إلى تغيرات في نمو الجهاز العصبي.

• الولادة المبكرة أو انخفاض الوزن عند الولادة: هذه الحالات ترتبط أحياناً بخلل في تطور الجهاز العصبي المركزي، مما يجعل الفرد أكثر عرضة للاضطرابات النفسية.

• نقص الأوكسجين أثناء الولادة: قد يؤدي إلى تلف في مناطق حساسة من الدماغ، مثل الفص الجبهي أو الحُصين، والتي لها علاقة بوظائف التفكير والتذكر والانفعالات.

دور تعاطي المخدرات

يُعد تعاطي المواد المخدرة أحد أبرز المحفزات لظهور أعراض الفُصام، خاصة لدى الأفراد ذوي الاستعداد الوراثي:

• القنب الهندي (الحشيش): هناك أدلة قوية على ارتباط القنب الهندي بزيادة خطر الإصابة بالفُصام، خاصة عند استخدامه في سن المراهقة، حيث يتداخل مع نظام الدوبامين ويؤثر على تطور الدماغ.

• الأمفيتامينات والكوكاين: تُحفّز هذه المواد الجهاز العصبي وتزيد من نشاط الدوبامين، ما قد يسبب نوبات ذهانية شبيهة بأعراض الفُصام.

• الهلوسات الناتجة عن LSD أو الفطر السحري: تُحدث تغيرات عميقة في الإدراك وتزيد من احتمالية الانفصال عن الواقع، خاصة لدى الأفراد الذين لديهم قابلية للفُصام.

الجدول التوضيحي للعوامل المسببة للفُصام

نظريات تفسيرية شاملة

تُعزّز النظريات التفسيرية المتكاملة الفهم الشامل لمرض الفُصام، حيث لا يُمكن اختزال أسبابه في عامل واحد، بل في تفاعل معقد بين عدة مستويات من العوامل:

• نظرية diathesis-stress: تفترض هذه النظرية أن الفُصام يحدث نتيجة تفاعل بين الاستعداد البيولوجي الكامن (Diathesis) والضغوط البيئية والنفسية (Stress) التي تُفعّله.

• النموذج البيولوجي-النفسي-الاجتماعي: يجمع هذا النموذج بين الأسباب الجينية، والبيولوجية، والنفسية، والبيئية، ويؤكد على ضرورة تقييم الحالة من عدة زوايا متكاملة.

الخاتمة

إن أسباب انفصام الشخصية لا يمكن حصرها في نطاق ضيق، بل تتشابك فيها العوامل الوراثية مع البيولوجية، وتتداخل مع المؤثرات النفسية والاجتماعية والبيئية في شبكة معقدة. هذا التعدد في العوامل لا يعكس فقط تعقيد المرض، بل يفتح آفاقاً متعددة للعلاج والوقاية من خلال التدخل المبكر، والفحص الجيني، والدعم النفسي والاجتماعي، وتحسين بيئة النشوء والتربية.

يبقى الفهم العميق والدقيق لأسباب الفُصام خطوة جوهرية نحو بناء أنظمة تشخيص وعلاج أكثر فعالية، وتحقيق رعاية شاملة تنقذ حياة الملايين من الضياع والمعاناة.

المراجع

1. Andreasen, N. C. (2011). Schizophrenia and the brain: what we have learned from neuroimaging. Harvard Review of Psychiatry.

2. Tandon, R., Keshavan, M. S., & Nasrallah, H. A. (2008). Schizophrenia, “just the facts” what we know in 2008. Part 1: Overview. Schizophrenia Research.