لماذا قد يعاني مرضى اضطراب الشخصية الحدية من العديد من حالات الهجر؟
اضطراب الشخصية الحدية (Borderline Personality Disorder – BPD) هو اضطراب نفسي يصنف ضمن فئة اضطرابات الشخصية، ويتميز بتقلبات عاطفية شديدة، وعلاقات غير مستقرة، وتصورات مشوشة للذات. المرضى الذين يعانون من هذا الاضطراب يواجهون تحديات كبيرة في التواصل الاجتماعي، وهو ما يؤثر بشكل خاص على قدرتهم على الحفاظ على علاقات مستقرة. يعتبر الهجر أحد أكثر التحديات المؤلمة التي يواجهها هؤلاء المرضى، حيث يعانون من تكرار حالات الهجر، سواء كانت حقيقية أو متصورة، مما يعمق معاناتهم النفسية. في هذا المقال، سنتناول الأسباب التي تؤدي إلى تعرض مرضى اضطراب الشخصية الحدية لحالات الهجر، والتأثيرات النفسية والاجتماعية لهذا الهجر، وكيفية التعامل مع هذه الحالات.
1. الطبيعة العاطفية المتقلبة لمرضى اضطراب الشخصية الحدية
أحد أبرز سمات اضطراب الشخصية الحدية هو التقلبات العاطفية الحادة. قد يمر المريض بتغيرات سريعة بين مشاعر الحب الشديد والكراهية الشديدة. هذه التقلبات يمكن أن تؤدي إلى صعوبة في فهم ما يريده الشخص الآخر في العلاقة أو في التعبير عن مشاعر ثابتة. نتيجة لهذا، قد يجد الآخرون أنفسهم في وضع صعب عند محاولة التكيف مع هذه التغيرات المستمرة. في بعض الحالات، قد يصبح الشخص الذي يعاني من الاضطراب قاسيًا جدًا في تعبيره عن مشاعر الغضب أو الإحباط، وهو ما قد يدفع الآخرين إلى الابتعاد.
هذه التقلبات العاطفية تعني أن مرضى اضطراب الشخصية الحدية يعيشون في حالة من الخوف المستمر من الهجر. قد يكون هذا الخوف دافعًا لإساءة فهم المواقف الاجتماعية، حيث يعتقدون أن الشخص الآخر سيبتعد عنهم بناءً على تصرفات قد تبدو لهم وكأنها دلالات على الرفض. ومع تزايد هذا الخوف، قد يظهر المريض سلوكًا مفرطًا في التعلق أو حتى في الهجوم العاطفي، ما يؤدي في النهاية إلى دفع الناس بعيدًا.
2. التحولات في الهوية والصورة الذاتية
من السمات الأساسية لاضطراب الشخصية الحدية هو الاضطراب في الهوية. يعاني العديد من المرضى من صعوبة في تحديد من هم في الحقيقة، ويشعرون بتقلبات حادة في تقديرهم لذاتهم. هذه الحالة قد تؤدي إلى استثارة مشاعر من عدم الاستقرار في علاقاتهم مع الآخرين. فعندما يعاني الشخص من صراع داخلي حول هويته، يصعب عليه تقديم صورة ثابتة عن نفسه للآخرين، مما يؤدي إلى توتر وتناقضات في التفاعلات الاجتماعية.
غالبًا ما ينعكس هذا الاضطراب في الهوية على كيفية ارتباط المرضى بالآخرين. قد ينتقلون بسرعة بين تقديم أنفسهم بشكل جذاب وبين إظهار صورة سلبية عن أنفسهم. هذا التحول المستمر قد يجعل من الصعب على الآخرين فهم هذا الشخص، مما قد يؤدي إلى شعورهم بالارتباك أو بالإحباط، وبالتالي قد ينشأ عن ذلك هجر أو فشل في المحافظة على العلاقات.
3. الخوف من الهجر والرفض
الخوف من الهجر يعد من أكثر الدوافع التي تشكل سلوك مرضى اضطراب الشخصية الحدية. غالبًا ما يشعر هؤلاء الأشخاص بأنهم غير قادرين على تحمل فكرة الخسارة العاطفية، لذا يصبح الهجر بالنسبة لهم مشكلة نفسية بالغة الأهمية. في الكثير من الأحيان، يكون هذا الخوف مبالغًا فيه إلى درجة أنه يؤدي إلى تصرفات سلبية قد تدفع الأشخاص من حولهم للابتعاد.
على سبيل المثال، قد يقوم المرضى بمبالغة في ردود فعلهم عند أي إشارات يشعرون بأنها قد تؤدي إلى الهجر، سواء كانت بسيطة أو حقيقية. هذه التصرفات قد تشمل التصعيد العاطفي، والتخريب المتعمد للعلاقات، أو حتى السلوكيات المحطمة للنفس. مثل هذه التصرفات تكون مؤذية للنفس وللآخرين، مما يجعل العلاقة مشحونة بالانفعالات السلبية التي تؤدي إلى الهجر المتكرر.
4. الاضطرابات في تنظيم العواطف
يواجه مرضى اضطراب الشخصية الحدية صعوبة شديدة في تنظيم عواطفهم. هذه الاضطرابات تجعل من الصعب عليهم التعامل مع المشاعر القوية مثل الغضب، الحزن، والخوف. في حالات عديدة، يفرط هؤلاء المرضى في التعبير عن هذه المشاعر أو يعانون من مشاعر متضاربة لا يستطيعون التعامل معها بشكل صحي. في هذه الحالة، قد يتصرفون بشكل مفرط أو عدواني أو حتى يتورطون في سلوكيات ذات طابع تدميري للذات.
السلوكيات المندفعة والاندفاعية، مثل التسبب في مشاكل كبيرة في العلاقات الشخصية بسبب الغضب غير المعقول أو الأفعال المتهورة، قد تؤدي إلى هجر الآخرين لهم. رغم أن هؤلاء المرضى يشعرون بأنهم لا يستطيعون التحكم في عواطفهم، إلا أن هذه السلوكيات غالبًا ما تكون مصدرًا رئيسيًا لفقدانهم للعلاقات الهامة.
5. إعادة إنتاج أنماط من العلاقات السامة
إن التجارب السلبية التي قد مر بها المريض في علاقاته السابقة، سواء كانت علاقات عائلية أو رومانسية، قد تساهم في تشكيل هذه الأنماط السامة. فقد تعرض هؤلاء الأشخاص في بعض الحالات إلى تربية قاسية أو كان لديهم علاقات متقلبة مع الشخصيات البالغة في حياتهم، مثل الوالدين أو المعلمين. هذه التجارب المبكرة قد تُشبعهم بمشاعر من العجز عن الحفاظ على علاقات صحية ومتوازنة.
نتيجة لذلك، يعيد مرضى اضطراب الشخصية الحدية إنتاج أنماط من العلاقات تكون غير متوازنة. قد يتوقعون الهجر حتى عندما لا يكون هناك أي سبب موضوعي لذلك. وهذا التوقع قد يدفعهم إلى تدمير العلاقة قبل أن تحدث الخسارة الحقيقية، في محاولة للتكيف مع الخوف من الرفض. هذا النمط، المعروف باسم “الانفصال قبل الهجر”، يكرر نفسه بشكل مستمر ويؤدي إلى عزلة مفرطة.
6. التفسير المفرط لسلوك الآخرين
يميل مرضى اضطراب الشخصية الحدية إلى تفسير سلوك الآخرين بشكل مفرط وغير دقيق. قد يظنون أن أي تغيير في سلوك الشخص الآخر يشير إلى وجود مشكلة أو رفض شخصي. قد يحدث هذا بسبب حساسيتهم الزائدة تجاه أي إشارات يتم تفسيرها على أنها تهديد للعلاقة. هذه الحساسية المفرطة تجعلهم يبالغون في تفسير الأمور ويقعون في فخ التفكير المشوش.
إذا شعروا بأن الشخص الآخر يبتعد عنهم أو لا يتفاعل معهم بنفس الدرجة التي كانوا يتوقعونها، فقد يفسرون ذلك على أنه هجر أو تراجع عن العلاقة، مما يؤدي بهم إلى تصرفات متسرعة أو مدمرة قد تدفع الشخص الآخر في الواقع إلى الابتعاد.
7. عوامل الرفض الاجتماعي
غالبًا ما يعاني مرضى اضطراب الشخصية الحدية من مشاكل في التواصل الاجتماعي. قد يجدون صعوبة في فهم الإشارات الاجتماعية والتفاعل مع الآخرين بطرق مقبولة. نتيجة لذلك، قد يواجهون صعوبة في بناء علاقات صداقة أو علاقات حب مستدامة. قد تكون هذه العلاقة العاطفية أو الاجتماعية قصيرة العمر بسبب قلة الفهم المتبادل أو الضغط النفسي الذي يشعر به الطرف الآخر.
هؤلاء المرضى قد يعانون من تصرفات قد تزعج الآخرين أو تدفعهم إلى التراجع، مما يؤدي إلى حدوث فترات طويلة من العزلة الاجتماعية. في الحالات القصوى، قد تؤدي هذه العزلة إلى تقوية فكرة الهجر عند المريض، حيث يبدأ في رؤية الجميع على أنهم على وشك مغادرته.
8. التأثيرات النفسية للهجر
يمكن أن يكون للهجر تأثير عميق على نفسية مرضى اضطراب الشخصية الحدية. بسبب طبيعة هذا الاضطراب، قد يشعر الشخص وكأنه لا يستحق الحب أو الاحترام. الهجر يصبح بمثابة تأكيد لهذا الشعور، مما يعمق مشاعر اليأس والاكتئاب. في بعض الحالات، قد تؤدي هذه المشاعر إلى سلوكيات انتحارية أو مدمرة، حيث يعتقد المريض أن الهجر هو “العقاب” الذي لا مفر منه.
الأثر النفسي للهجر يختلف من شخص لآخر، لكن التأثيرات السلبية على الصحة النفسية تكون شديدة بشكل عام، حيث قد يشعر المرضى بأنهم في حالة من الفقدان المستمر.
9. كيف يمكن تقديم الدعم لهؤلاء المرضى؟
من أجل تقليل تأثير الهجر على مرضى اضطراب الشخصية الحدية، من الضروري تقديم دعم نفسي قوي. يشمل هذا الدعم العلاج النفسي المتخصص، مثل العلاج السلوكي الجدلي (DBT)، الذي يركز على مساعدة المرضى في تنظيم عواطفهم وتعليمهم كيفية تحسين مهارات التواصل. بالإضافة إلى ذلك، من المهم أن يكون هناك دعم من العائلة والأصدقاء الذين يتفهمون طبيعة الاضطراب ويسعون لتعزيز الاستقرار العاطفي للمريض.
