أسباب الإفراط في الأكل

يُعتبر الإفراط في تناول الطعام ظاهرة شائعة ترتبط بالعديد من العوامل النفسية والبيولوجية والاجتماعية، وتُعد من أهم الأسباب التي تؤدي إلى زيادة الوزن والسمنة واضطرابات التمثيل الغذائي. تتجاوز هذه الظاهرة مجرد الشعور بالجوع، فهي غالبًا ما تكون انعكاسًا لتفاعلات معقدة بين العقل والجسد والبيئة المحيطة. وقد أصبح فهم هذه الدوافع ضرورة ملحة في العصر الحديث، لا سيما في ظل انتشار أنماط الحياة غير الصحية والضغوط اليومية المتزايدة التي يواجهها الإنسان المعاصر.

العوامل النفسية وراء الإفراط في الطعام

من أبرز المحركات الخفية للإفراط في الأكل هي العوامل النفسية، إذ يلجأ الكثير من الأفراد إلى الطعام كوسيلة للتعامل مع مشاعر التوتر، القلق، الاكتئاب، أو حتى الملل. تُعرف هذه الحالة علميًا باسم “الأكل العاطفي”، وهي تشير إلى استجابة الفرد للعواطف السلبية أو الإيجابية من خلال تناول كميات كبيرة من الطعام دون حاجة فعلية للجوع الجسدي. فقد أظهرت دراسات متعددة أن الضغوط النفسية تُضعف قدرة الإنسان على تنظيم سلوكه الغذائي، مما يجعله أكثر عرضة لاستهلاك أطعمة ذات كثافة سعرية عالية وغنية بالدهون والسكر.

علاوة على ذلك، يرتبط الشعور بالوحدة أو العزلة الاجتماعية بزيادة احتمالية اللجوء للطعام كبديل للعلاقات الاجتماعية، حيث يصبح تناول الطعام نوعًا من التعويض عن غياب التواصل أو التقدير الذاتي.

اضطرابات النوم وتأثيرها على الشهية

ترتبط قلة النوم أو اضطرابه بزيادة ملحوظة في مستويات هرمون “الغريلين”، وهو الهرمون المسؤول عن تحفيز الشهية، وبالمقابل انخفاض في هرمون “اللبتين” المسؤول عن الشعور بالشبع. ونتيجة لذلك، يعاني الأفراد الذين لا يحصلون على قسط كافٍ من النوم من زيادة الشهية والرغبة الشديدة في تناول الأطعمة الغنية بالكربوهيدرات والدهون، مما يؤدي إلى الإفراط في تناول الطعام دون وعي أو تحكم.

تأثير البيئة والعادات الاجتماعية

تلعب البيئة المحيطة دورًا حاسمًا في تشكيل عادات الأكل، بدءًا من وفرة الأطعمة المصنعة والإعلانات التجارية المغرية، وصولًا إلى العادات المجتمعية المرتبطة بالمناسبات والاحتفالات. ففي كثير من الثقافات، يُعتبر الطعام وسيلة للتعبير عن المحبة أو الضيافة، مما يشجع على تناول كميات كبيرة من الطعام حتى بعد الوصول إلى مرحلة الشبع.

كما أن تناول الطعام أمام الشاشات (كالتلفاز أو الهاتف المحمول) يُضعف الانتباه للإشارات الداخلية للشبع، ويؤدي إلى تناول كميات أكبر من الطعام دون إدراك ذلك. وقد أظهرت دراسات أن الأشخاص الذين يأكلون في بيئة تفتقر إلى الهدوء أو التركيز يكونون أكثر عرضة للإفراط في الطعام.

التأثيرات البيولوجية والهرمونية

تلعب بعض العوامل البيولوجية دورًا أساسيًا في تحفيز الإفراط في الأكل، لا سيما تلك المرتبطة باضطرابات في نظام المكافأة في الدماغ. فالطعام، وخصوصًا الأطعمة الغنية بالسكر والدهون، يُحفّز إفراز الدوبامين، وهو الناقل العصبي المرتبط بالمتعة والمكافأة. ومع التكرار، يُصبح الدماغ مبرمجًا على طلب هذه الأطعمة لتعزيز الشعور بالرضا، مما يؤدي إلى نوع من الاعتماد أو السلوك الشبيه بالإدمان.

بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود خلل في بعض الهرمونات مثل الإنسولين أو الكورتيزول يمكن أن يؤثر على مستويات الجوع والشبع. فعلى سبيل المثال، يرتبط ارتفاع الكورتيزول المزمن (كما في حالات التوتر المستمر) بزيادة الرغبة في تناول الأطعمة عالية السعرات.

العوامل الجينية والوراثية

تشير الدراسات الحديثة إلى أن هناك عوامل وراثية قد تسهم في ميل بعض الأفراد للإفراط في تناول الطعام، حيث تلعب الجينات دورًا في تحديد مدى حساسية الفرد للجوع، وكيفية تنظيم الجسم للطاقة، واستجابته للأطعمة. وقد وُجد أن هناك ارتباطًا بين طفرات جينية معينة وزيادة الشهية أو ضعف الإحساس بالشبع.

الجدول: مقارنة بين العوامل المسببة للإفراط في الأكل

العلاقة بين الإعلانات والتسويق والإفراط في الطعام

يُعد التسويق الغذائي أحد المحركات القوية لسلوكيات الإفراط في الأكل، خصوصًا في الفئات العمرية الأصغر. فقد أثبتت الدراسات أن التعرض المتكرر للإعلانات الخاصة بالوجبات السريعة والمشروبات السكرية يزيد من احتمالية اختيار هذه المنتجات وتناولها، حتى لو لم يكن الشخص يشعر بالجوع. وتعتمد هذه الحملات غالبًا على الإثارة البصرية والألفاظ الجاذبة التي تربط الطعام بالمتعة أو القبول الاجتماعي، مما يعزز الربط النفسي بين الطعام والراحة أو المكانة.

دور النمط الغذائي الصناعي

لقد أدى الانتشار الواسع للأطعمة المصنعة والوجبات السريعة إلى تعميق أزمة الإفراط في تناول الطعام. هذه الأطعمة غالبًا ما تكون مصممة بعناية من قِبل شركات الأغذية بحيث تكون جذابة من حيث المذاق والمظهر والرائحة، وتحتوي على مزيج من الدهون والسكريات التي تُحفز الدماغ على طلب المزيد. كما أنها تفتقر للألياف والمغذيات التي تعزز الإحساس بالشبع، مما يؤدي إلى تناول كميات أكبر منها مقارنة بالأطعمة الطبيعية.

الخلل في إدراك الجوع والشبع

يُعاني الكثير من الأفراد من ضعف القدرة على التمييز بين الجوع الحقيقي والجوع العاطفي أو الوهمي. وفي كثير من الأحيان، يكون الجوع الذي يشعر به الإنسان ناتجًا عن التوتر أو التعب أو حتى الجفاف، وليس عن حاجة الجسم الفعلية للطعام. وقد أدى غياب الوعي الجسدي وعدم الاستماع إلى إشارات الجوع الطبيعية إلى نمط من الأكل القائم على العادة أو الوقت أو الترفيه، بدلاً من الحاجة البيولوجية.

الإفراط في الطعام واضطرابات الأكل

لا يمكن تجاهل العلاقة بين الإفراط في تناول الطعام وبعض اضطرابات الأكل النفسية مثل اضطراب نهم الطعام (Binge Eating Disorder). يُعرّف هذا الاضطراب بأنه تناول كميات كبيرة من الطعام في فترة قصيرة مع فقدان الإحساس بالتحكم، ويصاحبه شعور بالذنب أو الندم بعد الأكل. ويُعد من أكثر اضطرابات الأكل شيوعًا، ويحتاج إلى تدخل علاجي نفسي وسلوكي.

الآثار الصحية الناتجة عن الإفراط في تناول الطعام

يُعد الإفراط في تناول الطعام سببًا مباشرًا في تطور عدد من الأمراض المزمنة، من أبرزها:

• السمنة: حيث تؤدي زيادة السعرات الحرارية بشكل يومي إلى تراكم الدهون في الجسم.

• السكري من النوع الثاني: نتيجة تكرار استهلاك الأطعمة الغنية بالسكريات والكربوهيدرات المكررة.

• ارتفاع ضغط الدم: خاصة مع الأطعمة المالحة أو الغنية بالدهون المشبعة.

• أمراض القلب والأوعية الدموية: بسبب زيادة مستويات الكوليسترول الضار والدهون الثلاثية.

• اضطرابات الجهاز الهضمي: مثل الانتفاخ، الإمساك، واضطرابات القولون العصبي.

الوعي والتثقيف الغذائي كوسيلة للحد من الإفراط

يُعد رفع مستوى الوعي والتثقيف الغذائي بين الأفراد والمجتمعات من الخطوات الجوهرية للحد من ظاهرة الإفراط في الأكل. ويشمل ذلك:

• تعلم كيفية قراءة بطاقات المعلومات الغذائية.

• تحديد الكمية المناسبة من الطعام في كل وجبة.

• ممارسة الأكل الواعي (Mindful Eating) والذي يقوم على التركيز والانتباه أثناء تناول الطعام.

• الابتعاد عن المشتتات مثل التلفاز والهاتف أثناء الأكل.

• اكتساب مهارات إدارة التوتر بطرق صحية لا تتضمن الطعام.

الختام

إن الإفراط في تناول الطعام ليس مجرد خلل في الانضباط الذاتي، بل هو نتاج لتشابك معقد بين العوامل النفسية والبيولوجية والاجتماعية والبيئية. والفهم العميق لأسباب هذه الظاهرة يُعد حجر الأساس للوقاية منها ومعالجتها بشكل فعال. إن تبني نمط حياة صحي ومتوازن، مدعوم بالوعي والاتزان النفسي، يُشكل خطوة جوهرية نحو بناء علاقة صحية مع الطعام والجسم.

المراجع:

1. American Psychological Association. Emotional Eating and Obesity.

2. Harvard Health Publishing. The science behind emotional eating.

3. National Sleep Foundation. How sleep affects your appetite.

4. World Health Organization (WHO). Healthy diet.

5. Mayo Clinic. Binge-eating disorder diagnosis and treatment.