أساليب الإضحاك في المقامات
تُعدّ المقامات من ألوان الأدب العربي التي تألقت في العصور الإسلامية المبكرة، خصوصًا في العصر العباسي، حيث ظهرت على يد الأدباء مثل بديع الزمان الهمذاني، وعلي بن الجهم، وغيرهما. وهذه الأدب الغني والمركب يتسم بالسرد القصصي المليء بالتفاصيل الدقيقة واللغة البليغة، ويجمع بين الفنون الأدبية مثل الوصف، والحوار، والتشبيه، والتكرار.
من أهم العناصر التي تميز المقامات عن غيرها من الأجناس الأدبية هي أساليب الإضحاك التي تشتهر بها، وهي التي تجعل هذه الأعمال الأدبية أكثر جذبًا للقارئ، وتمنحه فرصة للتسلية والفائدة معًا. في هذا المقال، سنستعرض مختلف الأساليب التي استخدمها الكتاب في المقامات من أجل خلق جو من الفكاهة والضحك، وكيف أثرت هذه الأساليب في الأدب العربي وجعلته أكثر تنوعًا وغنى.
1. التهكم والسخرية:
من أبرز الأساليب التي اعتمدها كتّاب المقامات في خلق الإضحاك هو استخدام التهكم والسخرية. ويقصد بالتهكم السخرية من الشخصيات والأوضاع بطريقة تهدف إلى نقد سلبي ولكن بأسلوب فكاهي. في المقامات، يتم تصوير الشخصيات بشكل مبالغ فيه أو من خلال مواقف تظهر فيها تصرفات غير معقولة أو تتسم بالخفة، مما يثير الضحك لدى القارئ.
على سبيل المثال، في مقامات الهمذاني، يُصوّر البطل “عيسى بن هشام” في مواقف غير متوقعة تظهره غالبًا في صراع مع الشخصيات الأخرى بطريقة هزلية، حيث يستخدم هذا التهكم كوسيلة لنقد البيئة الاجتماعية والسياسية في عصره.
تُستخدم السخرية في المقامات عادةً لانتقاد المظاهر الاجتماعية الخادعة مثل الجشع، النفاق، والترف. مثال على ذلك هو استخدام الهمذاني للحديث عن بعض الشخصيات التي تمثل الطمع أو الكذب أو الادعاء بالمعرفة، وفي هذه الحالات، يعمد الكاتب إلى تجسيد تلك الصفات بشكل مضحك يؤدي إلى السخرية منها في النهاية.
2. المبالغة في تصوير الشخصيات:
تلعب المبالغة دورًا كبيرًا في خلق الفكاهة في المقامات. فالشخصيات في المقامة تكون في الغالب مفرطة في صفاتها وتصرّفاتها، مما يضيف عنصرًا فكاهيًا بشكل طبيعي.
على سبيل المثال، يمكن أن نجد شخصيات في المقامات تتميز بصفات مدهشة للغاية، مثل: المبالغة في الذكاء أو الغباء، أو في البخل أو الكرم، أو في الجمال أو القبح. هذه الصفات تصبح هي أساس السخرية والضحك في السرد، فكلما كانت الشخصية مبالغًا فيها، كلما كان ذلك مصدرًا للفكاهة.
مثال آخر: في مقامة “التاجر الفطن” للهمذاني، نجد الشخصية التاجر المبالغ في فطنته وقدرته على خداع الآخرين. يضيف الكاتب العديد من المواقف التي تعكس هذه الشخصية المبالغ فيها بشكل يسهم في خلق حالة من التسلية للمتلقي.
3. العبثية في الحبكة:
الحبكة في المقامات تكون أحيانًا عبثية، مما يساهم في خلق نوع من الفوضى التي تؤدي إلى الضحك. يتم الانتقال في الأحداث بشكل غير منطقي، حيث تحدث تطورات غير متوقعة في السياق، مما يجعل الأحداث تبدو غريبة أو ساخرة.
مقام “مقامات الحريري” تمثل مثالًا بارزًا على هذا الأسلوب. في العديد من المقامات، نرى البطل ينجح في إتمام مهمة أو هدف بطريقة عبثية وغير منطقية، حيث يتطور الحدث بشكل غير متوقع ويصل إلى ذروته في لحظة من المفاجأة أو الفوضى، مما يثير الضحك بسبب غرابته.
العبثية في الحبكة تخلق نوعًا من اللامبالاة تجاه المنطق، وتتيح للكاتب فرصة للتلاعب بالأحداث والشخصيات بطريقة تمزج الجدية بالكوميديا.
4. التورية واللغة المزدوجة:
من أساليب الفكاهة المميزة في المقامات هي استخدام التورية، وهي أسلوب لغوي يعتمد على إخفاء المعنى الحقيقي للكلمة أو الجملة، بحيث يمكن فهمها بأكثر من طريقة. هذا الأسلوب لا يقتصر فقط على التلاعب بالكلمات، بل يُستخدم لخلق لحظات فكاهية تنطوي على مفارقات غريبة.
في العديد من المقامات، نجد أن الشخصيات تستخدم كلمات أو عبارات يمكن تفسيرها بعدة طرق، وتدور حول ذلك العديد من المواقف المضحكة. التورية تلعب دورًا في بناء المفارقات اللغوية التي تثير الضحك بسبب تعدد المعاني.
أحد الأمثلة المشهورة في هذا السياق هو استخدام الهمذاني في مقامات “عيسى بن هشام” لعبارات تحمل أكثر من معنى، بحيث تخلق فوضى لغوية بين الشخصيات وتؤدي إلى مواقف فكاهية، من خلال التفسير الخاطئ أو المزاح حول المعنى الحقيقي للكلمات.
5. المفارقات والمواقف الغريبة:
تعتمد المقامات على المفارقات بين الشخصيات أو بين الأحداث لخلق لحظات ساخرة. المفارقة هي تمثل نوعًا من التناقض أو التباين بين ما يُتوقع أن يحدث وما يحدث فعليًا. في المقامات، يتم استخدام هذه المفارقات بذكاء شديد لخلق المواقف التي تثير الضحك.
على سبيل المثال، قد يذهب بطل المقامة في مهمة ما، على سبيل المثال، ليطلب مساعدة من شخصية أخرى قد تكون متخلفة أو غير قادرة على مساعدته، ويكون النتيجة أن يتعثر في مواقف غير متوقعة أو متناقضة. هذا التناقض بين ما هو متوقع وما يحدث فعليًا يجعل الموقف مضحكًا.
في مقامات الهمذاني والحريري، هناك أمثلة على مواقف مفارقة مثل أن يتحول المتسول إلى صاحب سلطة أو أن يدّعي شخص فقير أنه غني، مما يخلق نوعًا من التوتر الفكاهي بين الموقف والكلام.
6. الاستعارة والتشبيه الفكاهي:
استعمال التشبيهات والاستعارات بشكل فكاهي هو أسلوب آخر استخدمه كتاب المقامات لخلق جو من الإضحاك. يتم استخدام التشبيهات بطريقة مبالغ فيها ومبالغ في خيالها حتى تصبح مضحكة. فالشخصيات أو المواقف تُقارن بمشاهد غريبة أو غير متوقعة، ما يجعلها تثير الضحك.
على سبيل المثال، قد يُشبه الكاتب شخصية معينة بحيوان غريب أو موقف غير عادي ليعكس جشع أو خُلقًا سيئًا بطريقة غير مباشرة، مما يعزز الطابع الفكاهي. استخدام الاستعارة في هذا السياق يمكن أن يكون قويًا في بناء الفكاهة، مما يجعل المشهد أكثر غرابة ومرحًا في نظر القارئ.
7. اللغة الهزلية والمفارقات اللفظية:
يتفنن كتّاب المقامات في استخدام اللغة الهزلية والمفارقات اللفظية لإيصال الفكاهة. فتزدحم المقامات بالمفردات المتناقضة والعبارات التي تمزج الجدية بالهزل. تمثل هذه اللغة أسلوبًا قويًا في إثارة الضحك، سواء من خلال التلاعب بالألفاظ أو باستخدام ألفاظ غير مألوفة أو متناقضة.
في مقامات الحريري، على سبيل المثال، نرى كيف أن “ابن هشام” يستخدم لغة في غاية الفكاهة عندما يتحدث عن بعض الشخصيات في المقامات، حيث لا يتردد في استخدام عبارات قد تكون ساخرة أو ملونة بالتهكم والغرابة.
الخاتمة
تلعب أساليب الإضحاك في المقامات دورًا رئيسيًا في جعل هذا النوع الأدبي محط إعجاب وجذب للقراء. من خلال استخدام التهكم، المبالغة، العبثية، التورية، المفارقات، التشبيه الفكاهي، واللغة الهزلية، يتمكن كتاب المقامات من خلق حالة من الفكاهة التي لا تقتصر على إسعاد القارئ فقط، بل أيضًا على نقد اجتماعي لطيف وتوجيه رسائل عبر قالب فكاهي بعيد عن التعقيد. هذه الأساليب جعلت من المقامة فنًا لا يُقتصر فقط على تسلية الجمهور، بل أداة نقد اجتماعي وحضاري في الوقت نفسه.
