أدم سميث: الفيلسوف الأخلاقي وعالم الاقتصاد الإسكوتلندي

يُعتبر أدم سميث (1723-1790) أحد أبرز الشخصيات الفكرية التي أثرت بشكل عميق على مجالات الفلسفة الأخلاقية والاقتصاد السياسي. هو فيلسوف وعالم اقتصاد إسكوتلندي، يُنظر إليه غالباً باعتباره “أب الاقتصاد الحديث” نظراً لما قدمه من أفكار مبتكرة ساهمت في صياغة نظريات الاقتصاد الكلاسيكي، والتي لا تزال تؤثر في الفكر الاقتصادي الحديث إلى حد كبير. لم يكن أدم سميث مجرد اقتصادي تقني، بل كان فيلسوفاً أخلاقياً قدم رؤية متكاملة تتناول الإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً أخلاقياً، ينطلق في تحليله من فهم شامل للطبيعة البشرية، الأخلاق، والسلوك الاقتصادي.

النشأة والتعليم والتكوين الفكري

وُلد أدم سميث في 5 يونيو 1723 في قرية كيركالدي بإقليم فيفي في اسكتلندا. فقد والده في سن مبكرة، لكنه تلقى دعماً تعليمياً قوياً من عمه الذي رافقه في تعليمه المبكر. التحق بجامعة غلاسكو، حيث درس تحت إشراف الفيلسوف الكبير فرانسيس هاتشسون، أحد أعمدة الفلسفة الأخلاقية في عصر التنوير الاسكتلندي. بعدها واصل دراسته في جامعة أوكسفورد لفترة، رغم أنه لم يكن راضياً عن أساليب التدريس هناك، لكنه استفاد من الاطلاع على العديد من الكتب والمخطوطات التي شكلت وعيه العلمي والفكري.

خلال هذه المرحلة، تأثر سميث كثيراً بالفكر التنويري، الذي كان يشجع على استخدام العقل، التجربة، والمنهج العلمي في دراسة الإنسان والمجتمع. هذا التأثير كان واضحاً في كتاباته اللاحقة، حيث حاول الجمع بين التحليل الاقتصادي والفلسفة الأخلاقية بشكل متكامل.

الفلسفة الأخلاقية: “نظرية المشاعر الأخلاقية”

صدر عام 1759 كتاب أدم سميث “نظرية المشاعر الأخلاقية” (The Theory of Moral Sentiments)، وهو عمل يعكس اهتمامه العميق بفهم القيم الأخلاقية والسلوك الإنساني من منظور فلسفي.

في هذا الكتاب، يعرض سميث فكرته عن “الإنسان الموضوعي” أو “المراقب المتعاطف” (Impartial Spectator)، الذي يمثل صوت الضمير أو الحكم الموضوعي الذي يحكم على سلوك الفرد. يرى سميث أن الإنسان بطبيعته يسعى إلى الموافقة والاعتراف من الآخرين، وأن التفاعل الاجتماعي يقوم على تعاطف الفرد مع مشاعر الآخرين، وهو ما يولد قواعد أخلاقية ضمنية تحكم العلاقات بين الناس.

يفسر سميث مشاعرنا الأخلاقية على أساس تعاطفنا مع معاناة أو فرح الآخرين، ما يجعل السلوك الأخلاقي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعلاقات الاجتماعية، وليس مجرد قواعد فارغة أو فرضيات عقلانية بحتة. بهذه الطريقة، يؤسس سميث لفهم جديد للأخلاق قائم على النفس الإنسانية في تفاعلها مع الآخرين.

الاقتصاد السياسي: “ثروة الأمم”

يأتي العمل الاقتصادي الأكثر شهرة لأدم سميث في كتابه “ثروة الأمم” (An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations) الصادر عام 1776، والذي يعتبر حجر الأساس للاقتصاد الكلاسيكي الحديث.

في هذا العمل، قدم سميث تحليلاً عميقاً لآليات السوق والاقتصاد، مشيراً إلى أن الثروة لا تُقاس بالذهب أو النقود فقط، بل بالإنتاجية والكفاءة الاقتصادية التي تعتمد على تقسيم العمل والتخصص.

تقسيم العمل

أحد أهم المفاهيم التي طرحها سميث هو “تقسيم العمل”، حيث يوضح كيف يمكن لتقسيم العملية الإنتاجية إلى مهام محددة أن يزيد من الكفاءة والإنتاجية بشكل كبير. يستشهد سميث بمثال صناعة الدبابيس، حيث يرى أن تقسيم المهام بين عدة عمال يؤدي إلى زيادة كبيرة في كمية الإنتاج مقارنة بعمل كل شخص على إنتاج الدبوس كاملاً.

اليد الخفية

مصطلح “اليد الخفية” هو من أشهر الأفكار التي استقاها الاقتصاديون من فكر أدم سميث، رغم أن سميث لم يستخدمه كمفهوم شامل في كتابه بل أشار إليه في مواضع محدودة. يشير هذا المفهوم إلى أن الأفراد في السوق، من خلال سعيهم لمصلحتهم الشخصية، ينظمون السوق بشكل غير مباشر بما يخدم المصلحة العامة. أي أن الحرية الاقتصادية وسعي الأفراد لتحقيق الربح الفردي يؤدي إلى تنظيم ذاتي للسوق وتحقيق رفاهية المجتمع ككل دون الحاجة إلى تدخل حكومي مكثف.

نقد التدخل الحكومي

على الرغم من دعمه لفكرة السوق الحر، لم يكن أدم سميث معارضاً مطلقاً لتدخل الدولة، بل رأى أن هناك مهاماً أساسية يجب أن تقوم بها الدولة لضمان سير الاقتصاد بشكل عادل وفعال، منها: توفير الأمن والدفاع عن المجتمع، إنشاء البنية التحتية، وتوفير التعليم الأساسي. لكنه حذر من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي بشكل مفرط يمكن أن يعرقل عمل السوق ويقلل من كفاءته.

مساهمات أدم سميث في الفكر الاقتصادي والاجتماعي

يشكل أدم سميث نقطة تحول في الفكر الاقتصادي، حيث أسس لعلم الاقتصاد بوصفه علماً مستقلاً له قوانينه وتحليلاته، مبتعداً عن النظرة السابقة التي كانت تخلط الاقتصاد بالأخلاق والسياسة بشكل مطلق.

أبرز مساهماته تتلخص في:

• وضع الاقتصاد في إطار علمي: فتح باب دراسة الاقتصاد على أسس تحليلية وعلمية، متخذاً من الملاحظة والتجربة منهجاً في فهم الاقتصاد.

• فهم طبيعة السوق والعوامل المؤثرة فيه: أرسى أسس السوق الحر، وقوانين العرض والطلب، ودور المنافسة في تحسين جودة المنتجات وخفض الأسعار.

• ربط الاقتصاد بالأخلاق والاجتماع: لم يكن الاقتصاد عنده مجرد أرقام ومعادلات، بل جزءاً من شبكة العلاقات الاجتماعية والأخلاقية، وهذا ما ميز تحليله عن غيره من فلاسفة الاقتصاد.

• التأكيد على دور تقسيم العمل في زيادة الإنتاجية: فكرة تقسيم العمل ساعدت على تطوير الفكر الصناعي والتجاري في العصور التالية، خاصة مع الثورة الصناعية.

• تأسيس مفهوم التنمية الاقتصادية: برؤية ثاقبة، اعتبر أن رفاهية الأمة تقاس بقدرتها الإنتاجية وليس بكمية الذهب أو الفضة التي تملكها.

التأثير الفكري والتاريخي

امتد تأثير أدم سميث إلى ما هو أبعد من الاقتصاد، حيث أثر في الفلسفة الاجتماعية والسياسية. أسهمت أفكاره في صياغة المبادئ الليبرالية التي دعمت حرية الفرد، السوق، والمؤسسات الديمقراطية التي تعتمد على قوانين واضحة ومستقرة.

كما كان لأفكاره دور محوري في تطور الفكر الاقتصادي خلال القرن التاسع عشر، حيث اعتمد عليها الاقتصاديون الكلاسيكيون مثل ديفيد ريكاردو وتوماس مالتوس. استمرت أهمية كتاباته في التأثير على السياسات الاقتصادية الحديثة، خصوصاً في دعم الاقتصاد الحر والمنافسة كآليات أساسية للنمو والتنمية.

في العصر الحديث، لا تزال أفكار أدم سميث محور دراسة في الجامعات والمؤسسات البحثية، ويُعاد تفسيرها وتطبيقها في سياقات جديدة تتعلق بالعولمة، الأسواق المالية، والتحديات الاجتماعية والاقتصادية.

مقارنة بين “نظرية المشاعر الأخلاقية” و”ثروة الأمم”

تشكل هاتان المؤلفتان العمودين الفقريين لفكر أدم سميث، رغم اختلافهما الموضوعي بين الأخلاق والاقتصاد، فإنهما متكاملتان ومترابطتان بشكل جوهري. يمكن تلخيص الفروق والتكامل بينهما في الجدول التالي:

خاتمة

يُعد أدم سميث شخصية محورية في التاريخ الفكري الإنساني، إذ جمع بين فلسفة الأخلاق والاقتصاد في رؤية شاملة تُبرز الطبيعة الإنسانية بجوانبها المعقدة والمتعددة. بتأسيسه لعلم الاقتصاد الحديث، ومساهمته في صياغة نظريات السوق الحر، قدم أدم سميث أساساً متيناً لفهم الاقتصاد كجزء لا يتجزأ من المجتمع، متوازناً بين المصلحة الفردية والعدالة الاجتماعية.

تظل أفكار سميث حية وقادرة على التكيف مع تحديات العصر، إذ تستمر في توجيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية وتشكيل المفاهيم الحديثة حول دور الأسواق، الدولة، والأخلاق في بناء مجتمعات مزدهرة ومستقرة.

المراجع:

1. Smith, Adam. An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations. 1776.

2. Smith, Adam. The Theory of Moral Sentiments. 1759.