كن إعلامياً معاصراً

في عصر تتسارع فيه المعلومات وتتعدد فيه الوسائط والمنصات، لم يعد الإعلام مجرد مهنة تقليدية تعتمد على نقل الأخبار وتغطية الأحداث، بل أصبح فناً متكاملاً يتطلب مهارات متعددة ومعرفة معمقة بمفاهيم العصر الرقمي. الإعلام المعاصر يتجاوز حدود النص والصوت والصورة إلى بناء الوعي، والتأثير في الرأي العام، والمساهمة في تشكيل الثقافة الجماعية للمجتمع. ولم يعد بالإمكان فصل الإعلامي عن التكنولوجيا، ولا عن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مما يستدعي إعادة تعريف دور الإعلامي المعاصر وتحديد معاييره ومهاراته المطلوبة في ضوء الواقع الجديد.

الإعلام التقليدي والتحول الرقمي

شهد الإعلام التقليدي، الذي يعتمد على الصحف الورقية والإذاعة والتلفزيون، تحولات جذرية مع بداية القرن الحادي والعشرين. هذا التحول تمثل في صعود الإعلام الرقمي، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتغيّر نمط استهلاك الجمهور للمحتوى. لم يعد الجمهور ينتظر النشرة الإخبارية في وقت محدد، بل أصبح يمتلك إمكانية الوصول إلى الأخبار والمعلومات لحظياً ومن مصادر متعددة ومتنوعة.

هذا الواقع الجديد أدى إلى تراجع تأثير المؤسسات الإعلامية التقليدية، مقابل صعود الإعلام الجديد الذي يرتكز على سرعة النشر، وتفاعل الجمهور، والمحتوى الموجّه. فظهرت مفاهيم جديدة مثل “صحافة المواطن”، و”الصحفي الرقمي”، و”الإعلام البديل”، وهي مفاهيم لم تكن مألوفة قبل عقدين فقط.

الإعلامي المعاصر: شخصية متعددة الأدوار

الإعلامي المعاصر ليس مجرد ناقل للخبر أو مذيع يقدم النشرات أو كاتب يحرر المقالات. إنه شخصية مركبة تجمع بين المهني والفني والتقني والثقافي. فهو صحفي، ومصور، ومحرر، ومنتج محتوى، ومتفاعل مع الجمهور في آنٍ واحد. يجب أن يكون قادراً على العمل في بيئة متعددة الوسائط (Multimedia)، وأن يتقن أدوات التحقق من المعلومات، ويعرف كيف يستخدم خوارزميات الانتشار، ويفهم سلوك المستخدمين الرقميين.

من أبرز سمات الإعلامي المعاصر:

• التقنية: يجب أن يمتلك الإعلامي معرفة تقنية قوية في التعامل مع الأدوات الرقمية، من برامج المونتاج والتصميم، إلى أنظمة إدارة المحتوى (CMS) وتحليل البيانات.

• التفاعل: القدرة على بناء علاقة مع الجمهور عبر المنصات الاجتماعية، والرد على التفاعلات، وتوظيف التعليقات والآراء في تطوير المحتوى.

• التحقق من المعلومات: في ظل انتشار الأخبار الزائفة، يجب أن يكون الإعلامي قادراً على التحقق من المصادر، والتمييز بين المعلومة الحقيقية والمضللة.

• الإنتاج المتعدد الوسائط: يجمع الإعلامي المعاصر بين النص، والصورة، والفيديو، والصوت، والإنفوغراف، لإنتاج محتوى أكثر تفاعلاً وجذباً.

الإعلام والتأثير في الرأي العام

لم يعد الإعلام مجرد قناة للتثقيف أو الإخبار، بل أصبح أداة قوية لتشكيل الرأي العام والتأثير في القرارات السياسية والاقتصادية. وقد ساهم الإعلام الرقمي، من خلال خاصياته التفاعلية وقدرته على الوصول السريع للجمهور، في تعزيز هذا الدور. كما أن الأزمات السياسية والصحية (مثل جائحة كوفيد-19) أثبتت أن الإعلام يمتلك سلطة لا تقل عن سلطة الحكومات في توجيه السلوك الجماعي.

ومع هذا التأثير الكبير، تزداد مسؤولية الإعلامي في الحفاظ على الموضوعية، وتقديم المعلومة الصحيحة، والامتناع عن التحريض أو نشر المعلومات المضللة. فالإعلامي المعاصر مسؤول أخلاقياً وقانونياً ومجتمعياً عن الكلمة التي يكتبها أو يقولها.

الإعلامي كمثقف

الإعلامي المعاصر لا يجب أن يكتفي بالمعرفة التقنية والمهنية فقط، بل عليه أن يكون مثقفاً، مطلعاً على قضايا عصره، مدركاً للسياقات السياسية والاجتماعية والثقافية. الثقافة الواسعة تمنحه القدرة على التحليل العميق، وتساعده في تقديم محتوى ثري يلامس اهتمامات الناس، ويتجاوز السطحية والاختزال.

فالصحفي الذي يكتب في الشؤون الدولية، يجب أن يكون على دراية بتاريخ الصراعات الدولية وأسس العلاقات الدولية. والإعلامي الذي يغطي الشؤون الاقتصادية، لا بد أن يفهم أساسيات الاقتصاد الكلي والجزئي، وأسواق المال والتجارة الدولية. أما من يعمل في المجال الثقافي، فعليه أن يكون متابعاً للفكر، والفن، والإبداع الأدبي.

الإعلام المعاصر وتحديات المصداقية

من أكبر التحديات التي تواجه الإعلامي المعاصر هو الحفاظ على المصداقية في عالم يعج بالمعلومات والأخبار المفبركة. ومع تزايد استعمال الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى، أصبحت عملية التحقق من المعلومة أكثر تعقيداً. وقد أصبحت المؤسسات الإعلامية مطالبة بامتلاك أدوات متقدمة للتحقق من الصور والفيديوهات، وتحليل مصادر الأخبار، والتمييز بين الحقيقة والدعاية.

والمصداقية لا تعني فقط تقديم المعلومة الصحيحة، بل تشمل أيضاً النزاهة التحريرية، وعدم الانحياز، والقدرة على تمثيل وجهات النظر المتعددة، واحترام أخلاقيات المهنة.

المنصات الاجتماعية كمساحة للإعلام

أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي ثورة حقيقية في عالم الإعلام. فقد أصبحت منصات مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام وتيك توك منابر رئيسية لإنتاج ونشر الأخبار، وأصبح الإعلامي مطالباً بتعلم كيفية استخدام هذه المنصات بشكل فعّال. فكل منصة لها طبيعتها وسلوك جمهورها، وتوقيتاتها المناسبة للنشر، وأدواتها الخاصة في التفاعل والانتشار.

والإعلامي الناجح هو من يعرف كيف يستثمر هذه المنصات لإيصال رسالته، والتفاعل مع متابعيه، وبناء قاعدة جماهيرية. فالإعلام لم يعد مقتصراً على القنوات الرسمية، بل أصبح مساحة مفتوحة للمشاركة، والنقاش، وتبادل المعرفة.

الجدول التالي يلخص الفروقات بين الإعلام التقليدي والإعلام المعاصر:

الإعلام والتعليم والتكوين المستمر

لم تعد الشهادات الأكاديمية وحدها كافية لصناعة إعلامي ناجح في هذا العصر. فالإعلام المعاصر يتطلب تعلماً مستمراً، ومتابعة دائمة للتطورات التكنولوجية والمنهجيات الصحفية. ولذلك فإن التكوين المستمر يمثل أحد المفاتيح الأساسية لتطوير المهارات، والتأقلم مع التحولات السريعة في المجال الإعلامي.

الدورات التدريبية في الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات، الصحافة الاستقصائية، إنتاج الفيديو القصير، التدوين الصوتي، الأمن الرقمي، والتحقق من الأخبار، أصبحت من الأدوات الأساسية في حقيبة الإعلامي العصري. كما أن التطور في أدوات التصميم والمونتاج يستدعي مهارات تقنية متقدمة لمن أراد التميز في منصات الفيديو والمرئيات.

الإعلام والحياد في زمن الاستقطاب

في زمن تتزايد فيه الاستقطابات السياسية والدينية والثقافية، يجد الإعلامي نفسه أمام تحديات أخلاقية كبيرة. فالحفاظ على الحياد والموضوعية بات مهمة شاقة، خاصة حين يكون هناك ضغوط من جهات رسمية أو جماهيرية أو حتى اقتصادية. لكن بقاء الإعلامي على الحياد، والتمسك بقواعد المهنية الصحفية، يمثل حجر الأساس لثقة الجمهور بالمؤسسات الإعلامية.

فالحياد لا يعني المساواة بين الحق والباطل، بل يعني نقل الوقائع كما هي، وتمثيل كل الآراء، وتحليل السياقات دون انحياز. ومن هنا تبرز أهمية امتلاك الإعلامي لرؤية نقدية، وقدرة على تحليل المواقف بعمق وتجرد.

الصحافة الاستقصائية في العصر الرقمي

تُعد الصحافة الاستقصائية من أرقى أشكال العمل الإعلامي، حيث تعتمد على التحقيق في قضايا الفساد، وسوء الإدارة، والانتهاكات. ومع تطور الأدوات الرقمية، أصبح بمقدور الصحفيين الاستقصائيين تتبع الوثائق المسربة، وتحليل البيانات الضخمة، والربط بين الأحداث بطريقة منهجية علمية.

ومع أن الصحافة الاستقصائية تتطلب وقتاً وجهداً وموارد، فإنها تظل من أهم أشكال الصحافة التي تحمي الديمقراطية، وتكشف الحقيقة، وتمنح الإعلام مصداقية واحتراماً لدى الجمهور.

خاتمة: صناعة التأثير لا نقل الخبر فقط

الانتقال من إعلام ينقل الأخبار إلى إعلام يصنع التأثير، يتطلب إعادة تعريف دور الإعلامي، وتحديث أدواته، وتمكينه معرفياً وتقنياً وثقافياً. فالمجتمع اليوم لا يحتاج فقط لمن يخبره بما يحدث، بل لمن يشرح له لماذا يحدث، وما الذي يمكن أن يترتب على ذلك. الإعلامي المعاصر هو مؤرخ اللحظة، ومحلل المستقبل، ومرآة المجتمع، ووسيط المعرفة.

المراجع:

1. Manuel Castells, Communication Power, Oxford University Press, 2009.

2. Kovach & Rosenstiel, The Elements of Journalism, Crown Publishing, 2014.