الرجال أكثر احتمالاً لترك شريكة الحياة إذا أصيبت بالسرطان
في خضم التجارب الإنسانية الكبرى، لا تبرز قوة الروابط الإنسانية كما تفعل عند مواجهة مرض خطير كمرض السرطان. وعلى الرغم من التصورات الشائعة التي تفترض أن الشريك يصبح السند والداعم عند الشدائد، إلا أن دراسات علمية متعددة أظهرت مفارقة مؤلمة: الرجال أكثر احتمالاً لترك شريكة الحياة عندما تُصاب بالسرطان، مقارنةً بما إذا أصيب الرجل بالمرض نفسه. هذا السلوك لا يعكس فقط خللاً في فهم العلاقة الزوجية والتزاماتها، بل يفتح نقاشاً واسعاً حول القوالب الاجتماعية والضغوط النفسية والاختلالات العاطفية في العلاقات بين الجنسين.
الخلفية العلمية للظاهرة
أظهرت دراسة نُشرت في دورية Cancer عام 2009، أُجريت على أكثر من 500 حالة زواج تضمنت أحد الزوجين مصاباً بمرض السرطان أو التصلب المتعدد، أن معدلات الانفصال أو الطلاق كانت أعلى بكثير عندما تكون المرأة هي المريضة. وبحسب نتائج الدراسة، فإن 20.8% من الأزواج تركوا زوجاتهم المصابات بالسرطان، في حين أن نسبة النساء اللواتي تركن أزواجهن المصابين لم تتجاوز 2.9%.
تشير هذه النسب إلى اختلاف جوهري في السلوكيات العاطفية والاجتماعية بين الجنسين في مواجهة الأزمات الصحية. وقد ربط الباحثون هذا الاختلاف بعدة عوامل من ضمنها الضغوط المجتمعية، وضعف مهارات التأقلم العاطفي لدى بعض الرجال، وكذلك الفروقات في التكوين النفسي والسلوكي.
الأبعاد النفسية والاجتماعية للقرار
عندما تُصاب المرأة بمرض مزمن وخطير مثل السرطان، فإن المعاناة لا تقتصر فقط على الألم الجسدي والمعنوي، بل تمتد لتشمل القلق من فقدان الشريك والداعم الأساسي في الحياة. فالمرأة في مثل هذه اللحظات تكون في أمسّ الحاجة إلى وجود من يقف بجانبها، يدعمها نفسياً، ويرافقها خلال رحلة العلاج القاسية.
غير أن بعض الرجال يجدون أنفسهم عاجزين عن تحمل التغيير المفاجئ في الحياة الزوجية، خاصة إذا كان المرض يؤثر على قدرة المرأة على أداء أدوارها التقليدية داخل المنزل. وهذا بدوره يكشف عن عمق تأثر بعض العلاقات الزوجية بالقوالب النمطية، حيث تُختزل العلاقة الزوجية في الأدوار الوظيفية أكثر من كونها شراكة إنسانية وعاطفية.
في المقابل، تُظهر الدراسات أن النساء غالباً ما يتفاعلن بطريقة مغايرة عند إصابة أزواجهن بالسرطان، إذ يزداد التزامهن، وتتعزز أدوارهن كراعيات ومساندات، وهو ما يؤكده الانخفاض الملحوظ في نسب الانفصال عندما يكون الرجل هو المريض.
الدور الذي تلعبه الصورة الجسدية للمرأة
تُعد الصورة الجسدية من المحاور الحساسة التي يتأثر بها النساء المصابات بالسرطان، خاصة في حالات سرطان الثدي أو السرطانات النسائية. فالعلاج الكيميائي والإشعاعي والجراحي غالباً ما يؤدي إلى تغييرات جذرية في شكل الجسد، كفقدان الشعر أو الثدي أو الوزن.
عوضاً عن أن تتلقى المرأة الدعم والمساندة في مواجهة هذه التغييرات، فإنها في بعض الحالات تُجابه بنفور أو ابتعاد عاطفي من شريكها، مما يؤدي إلى تدهور حالتها النفسية بشكل متسارع. وربما يُعزى هذا السلوك إلى عدم نضج عاطفي لدى بعض الرجال، وعدم قدرتهم على الفصل بين الحب كمشاعر عميقة وبين الانجذاب الجسدي الظاهري.
تأثير المرض على أدوار المرأة التقليدية
في مجتمعات كثيرة، يُنظر إلى المرأة كراعية للأسرة، وركيزة أساسية في المنزل من حيث العناية بالأطفال، إدارة شؤون البيت، وحتى الدعم العاطفي للرجل نفسه. وعندما تُصاب المرأة بمرض مثل السرطان، فإن قدرتها على أداء هذه الأدوار تتضاءل، ما يؤدي ببعض الأزواج إلى الإحساس بالفراغ أو العبء، ومن ثم اتخاذ قرار الانسحاب من العلاقة.
هذا التصرف يُظهر بوضوح هشاشة بعض العلاقات التي تُبنى على العطاء غير المتبادل، حيث تتوقع فيها المرأة أن تظل في دور “المانح”، بينما يظل الرجل في موضع “المُتلقّي”، مما يُخفي اختلالاً بنيوياً في قيم التبادل العاطفي والإنساني داخل العلاقة الزوجية.
العوامل الثقافية والاجتماعية
تلعب الثقافة المجتمعية دوراً كبيراً في ترسيخ أنماط معينة من التفاعل بين الجنسين. ففي مجتمعات تُشجع الرجولة التقليدية القائمة على القوة والاستقلالية والانفصال العاطفي، يُصبح من الصعب على الرجل التعبير عن الضعف أو الانخراط في مواقف تتطلب تواصلاً عاطفياً عميقاً، مثل مرافقة الزوجة في رحلة علاجية شاقة.
بل إن بعض المجتمعات تفرض على الرجل ضغوطاً إضافية تُظهر تراجعه في هذه المواقف كنوع من “الحكمة” أو “البراغماتية”، وتُقلل من شأن الوفاء العاطفي على حساب “تحقيق الذات” أو “الهروب من المعاناة”. وبالتالي، فإن قرار الانسحاب في بعض الحالات لا يكون فقط نابعا من ضعف داخلي، بل أيضاً من ضغوط اجتماعية خارجية تمجد مواقف الانفصال واللامبالاة.
الآثار النفسية على المرأة المريضة
عندما يُضاف إلى عبء المرض قرار التخلي من الشريك، فإن الأثر النفسي قد يكون مدمراً. الانفصال في هذه المرحلة لا يُعد فقط خسارة عاطفية، بل أيضاً يُشكل عاملاً مهدداً للسلامة النفسية والجسدية للمريضة. حيث أظهرت دراسات متعددة أن الدعم العاطفي من الشريك يُساهم في تحسين معدلات الشفاء، وزيادة الاستجابة للعلاج، وتقليل نسب الانتكاس.
وفي المقابل، فإن التخلي عن المرأة في هذه المرحلة يؤدي إلى تدهور كبير في حالتها النفسية، واضطرابات في النوم، وتراجع في مستويات الأمل، وربما يؤدي إلى تفاقم الأعراض الجانبية للعلاج نتيجة الضغط العصبي المستمر.
النماذج الإيجابية والحلول الممكنة
ورغم قتامة الصورة التي ترسمها هذه الظاهرة، إلا أن هناك نماذج مشرقة لرجال وقفوا بجانب شريكاتهم في أحلك الظروف، وشكلوا أمثلة يُحتذى بها في الوفاء والدعم العاطفي. هؤلاء الرجال لم يُظهروا فقط شهامة إنسانية، بل ساعدوا في إنقاذ أرواح وتثبيت معايير جديدة للعلاقة الزوجية.
وتبرز أهمية التوعية في هذا السياق، حيث ينبغي أن يُعاد تعريف مفهوم الرجولة بحيث يشمل القدرة على التحمّل، والرعاية، والدعم في الأوقات العصيبة. كما أن البرامج النفسية والدورات التدريبية الموجهة للأزواج الذين يواجهون مرضاً مشتركاً يمكن أن تُساعد في تعزيز القدرة على التعامل مع الأزمة بشكل ناضج وعاطفي.
التوصيات المؤسساتية والمجتمعية
ينبغي للمؤسسات الصحية أن تُدرج بُعد العلاقات الزوجية ضمن خطط علاج السرطان، خاصة في المراحل المبكرة. وجود مستشارين نفسيين متخصصين في العلاقات داخل مراكز علاج السرطان يمكن أن يُحدث فرقاً كبيراً في نتائج العلاج، خاصة عند التدخل المبكر في الأزمات العاطفية.
كما يجب على الجمعيات النسوية والحقوقية أن تُسلّط الضوء على هذه الظاهرة، وتدفع باتجاه تطوير قوانين تُسهم في حماية المرأة المريضة من التخلي المفاجئ، سواء كان مادياً أو قانونياً أو حتى عاطفياً.
من جهة أخرى، يجب تعزيز الثقافة الإعلامية التي تُشجع على التضامن الأسري عند مواجهة الأزمات الصحية، وتقديم قصص النجاح كنماذج حية قادرة على إلهام الآخرين للسير على ذات الدرب.
الخاتمة: انعكاسات الظاهرة على صورة المجتمع
تكشف ظاهرة ترك الرجل لشريكة حياته عند إصابتها بالسرطان عن جانب عميق من هشاشة القيم في بعض العلاقات الإنسانية، ومدى الحاجة إلى مراجعة المفاهيم التي تحكم الروابط الزوجية. إنها ليست مجرد حادثة فردية، بل مؤشر على أن التوازن العاطفي والدعم المتبادل ما زال حلماً بعيد المنال في كثير من البيوت.
المجتمع الذي لا يُكرّس ثقافة التضامن والوفاء في الأزمات، لا يمكن أن يُنتج علاقات صحية ومستقرة. ولذلك، فإن التصدي لهذه الظاهرة لا يكون فقط بالتحليل والتفسير، بل عبر بناء منظومة ثقافية وأخلاقية جديدة تُعلي من شأن الالتزام والدعم في أحلك الظروف، وتجعل من الحب شراكة حقيقية لا تُختبر إلا في المحن.
المراجع:
-
Glantz, M.J., Chamberlain, M.C., Liu, Q., et al. (2009). Gender disparity in the rate of partner abandonment in patients with serious medical illness. Cancer, 115(22), 5237–5242.
-
American Cancer Society. (2021). Caregiving during Cancer Treatment: Partner Perspectives.
