وهل هذا معقول!؟ أتتزوج بدون..!؟

في مجتمعاتنا العربية، لا يزال موضوع الزواج يحتل مكانة مركزية بوصفه اللبنة الأولى في بناء الأسرة والمجتمع، إلا أن الحديث عن الزواج لم يعد ينحصر في حفل الزفاف أو ترتيباته، بل اتسعت دائرته لتشمل قضايا متجذرة في الوعي الجمعي، متشابكة بين الموروث الثقافي والديني والاجتماعي، ومنها تلك الجملة الصادمة التي تُردد بين الناس باندهاش واستنكار: “وهل هذا معقول!؟ أتتزوج بدون..؟!”. ويُترك الفراغ في نهايتها ليملأه كل فرد بما يراه من أساسيات يعتبرها غير قابلة للنقاش. فمنهم من يربطه بالذهب، وآخرون بالمهر، وغيرهم بحفل الزفاف، أو حتى بامتلاك شقة وسيارة ومصدر دخل ثابت. فهل أصبحت هذه الأمور شروطًا للزواج أم معوقات تحول بين الشباب وتحقيق هذا الاستقرار؟

الزواج بين المفهوم الاجتماعي والديني

يُنظر إلى الزواج في الإسلام بوصفه سنة نبوية ووسيلة من وسائل العفاف والاستقرار، قال تعالى:

“وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً” [الروم: 21].

وعلى الرغم من هذه النظرة الربانية الراقية، إلا أن الواقع الاجتماعي قد ابتعد كثيرًا عن بساطة الفكرة، واتجه نحو المظاهر والطقوس. أصبح الزواج اليوم مشروعًا اقتصاديًا مُكلفًا، يخضع لحسابات معقدة من حيث التكاليف، والجاهزية المادية، والمطالب التي لا تنتهي من الطرفين. ولذا، نسمع كثيرًا تلك العبارات المستهجنة التي تُبنى على مقاييس مغلوطة، كأن الزواج لا يصح إلا بوجود مظاهر معينة، وإلا اعتُبر ناقصًا، أو غير مقبول اجتماعيًا.

قائمة التوقعات المستحيلة

عبارة “أتتزوج بدون..؟” كثيرًا ما ترتبط بمجموعة من العناصر التي يراها البعض ضرورية، فيما يراها آخرون ترفًا، ومن هذه العناصر:

• الذهب: ما زال يُعد في كثير من الأوساط مقياسًا لمكانة العروس ومكانة العريس. هناك من يعتبر أن الذهب لا يُهدى فقط بل يُعرض كما لو كان جائزة يجب أن تُشاهد أمام الحضور، مما يفرض أرقامًا مبالغًا فيها.

• المهر المرتفع: رغم وضوح التوجيه الإسلامي بضرورة التيسير في المهر، إلا أن الكثير من الأسر تتعامل معه كنوع من التفاخر الاجتماعي، لا كوسيلة لبدء حياة جديدة.

• حفل الزفاف الفاخر: في ظل التنافس الاجتماعي، باتت حفلات الزفاف تخضع لمقاييس الإنتاج السينمائي، بميزانيات ضخمة، وتفاصيل تتطلب تدخل شركات تنظيم متخصصة، ما يدفع البعض إلى الاقتراض أو الإنفاق بما يتجاوز طاقتهم.

• الشقة الفخمة: السكن من ضروريات الحياة الزوجية، لكن تحوّله إلى شرط بنمط معين وموقع مميز وتأثيث فاخر، يجعل منه أحيانًا عائقًا نفسيًا قبل أن يكون ماديًا.

• الوظيفة الثابتة والدخل المرتفع: بات كثيرون يربطون أهلية الشاب للزواج باستقراره المهني، وغالبًا لا يُقبل من لا يملك وظيفة حكومية أو دخلًا يفوق حده الطبيعي.

الانفصال بين الجوهر والمظهر

هذه التوقعات تخلق انفصالًا حقيقيًا بين جوهر الزواج وغايته، وبين مظاهره الشكلية. فبدلًا من أن يكون الزواج تلاقيًا روحيًا بين شريكين في مشروع حياة مشترك، بات يُقاس بما يُصرف عليه، وما يُعرض فيه، وما يُملَك قبل عقد قرانه. وهذا الانفصال أفرز نتائج مقلقة:

• تأخر سن الزواج: عزوف كثير من الشباب عن الزواج بسبب ارتفاع التكاليف، والضغوط المجتمعية، ما يساهم في ظواهر أخرى مقلقة مثل الانحراف أو العلاقات غير الشرعية.

• الزواج الصوري: بعض الشباب يُقدِمون على الزواج بشكل غير ناضج، فقط لإرضاء رغبة المجتمع، أو لتجاوز التوقعات، مما يؤدي إلى زيجات هشة تنهار سريعًا.

• الزواج بالتقسيط: ظاهرة حديثة بدأت تنتشر، يعمد فيها الشاب إلى الاقتراض أو الدخول في التزامات طويلة الأجل من أجل إتمام زواجه، فيتحول الزواج من مودة ورحمة إلى عبء مالي خانق.

الفروق الطبقية والزواج

واحدة من الإشكاليات المرتبطة بهذه المعايير هي الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. ففي الوقت الذي تسعى فيه شريحة من الشباب إلى التيسير، لا يزال المجتمع يُملي شروطًا مبالغًا فيها بحجة “الحفاظ على المستوى الاجتماعي”، أو “ضمان كفاءة النسب”. هذه النظرة الطبقية لا تمت بصلة لروح الزواج التي ترتكز على القبول والتفاهم والاحترام المتبادل.

الضغط الاجتماعي وعبء “كلام الناس”

يعيش الكثير من الشباب والآباء تحت وطأة ما يُعرف بـ “كلام الناس”. فكم من زيجة رُفضت لأنها “لا تليق اجتماعيًا”، أو لأن العريس “لا يملك سيارة”، أو لأن “العروس لم تحصل على مهر كافٍ”! وغالبًا ما يُقال: “كيف ستتزوج ابنتنا بدون ذهب؟!”، أو “أتتزوج بهذا المهر القليل؟”، أو “وهل من المقبول أن تُقام حفلة الزواج في صالة بسيطة؟”.

بين المألوف والمقبول شرعًا

لا ينكر أحد أن بعض هذه المطالب لها بعدٌ ثقافي واجتماعي عميق، وأنها جزء من العادات والتقاليد، ولكن الخطورة تكمن في جعلها شروطًا مسبقة لا يُعترف بالزواج إلا بتحقيقها، مما يتنافى مع المقاصد الشرعية، ويخلق واقعًا زائفًا من القيم.

من الناحية الشرعية، فقد تزوّج الرسول ﷺ ببساطة متناهية، بل إن بعض أمهات المؤمنين لم يُقدَّم لهن مهرًا يُذكر. بل نجد في سيرة السلف كثيرًا من الأمثلة على التيسير في الزواج، والتشديد فقط على الأخلاق والدين، كما ورد في الحديث الشريف:

“إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض” [رواه الترمذي].

الزواج في ظل التحولات الاقتصادية المعاصرة

في العقود الأخيرة، تأثرت تركيبة الأسرة ومؤسسة الزواج بتحولات اقتصادية كبيرة، منها:

• ارتفاع نسب البطالة، وهو ما يؤخر كثيرًا قدرة الشباب على الاستقلال المادي.

• غلاء المعيشة وتضخم الأسعار، مما يرفع تكلفة الحياة اليومية قبل وبعد الزواج.

• تغير أنماط الإنفاق، حيث أصبح كثير من الأشياء الأساسية (كالسكن والنقل) تحتاج إلى تمويل طويل الأمد.

• تحولات اجتماعية في دور المرأة، إذ أصبحت كثير من الفتيات يملكن وظائف، ويشاركن في الإنفاق، لكن لا تزال بعض المجتمعات تُصر على تحميل الرجل وحده جميع المسؤوليات المالية.

نظرة تحليلية للظاهرة في ضوء بيانات ميدانية

وفقًا لدراسات صادرة عن مراكز مختصة في قضايا الأسرة والمجتمع في المنطقة العربية، فقد لوحظ:

هذه الأرقام تكشف بوضوح أن المعوقات المادية أصبحت الحاجز الأول أمام تكوين الأسر، وهو ما يعزز أهمية تغيير الخطاب المجتمعي حول الزواج.

مبادرات للتغيير وإعادة ضبط المفاهيم

ظهرت في السنوات الأخيرة بعض المبادرات الهادفة إلى تبسيط الزواج والتقليل من تكاليفه، منها:

• حملات زواج جماعي مدعومة من مؤسسات خيرية.

• اتفاقات مجتمعية لتحديد سقف المهور في بعض القرى والمناطق.

• دعوات إعلامية ودينية لتبني الزواج البسيط وتشجيع الشاب القادر أخلاقيًا لا ماديًا.

• برامج توعية أسرية تهدف إلى إعداد الأزواج نفسيًا وتربويًا بدلًا من التركيز على الشكل الخارجي.

التحول الثقافي المطلوب

المجتمع بحاجة ماسة إلى تحول ثقافي عميق، يهدف إلى إعادة تعريف الزواج كرباط إنساني قائم على القبول والمحبة والمسؤولية، لا كمشروع استعراضي يهدف إلى نيل إعجاب الناس. وهذا التحول يتطلب تدخلًا من:

• المنابر الدينية لترسيخ الفهم الصحيح للزواج في الإسلام.

• الأسرة لتكون حاضنة تشجع أبناءها على التيسير.

• وسائل الإعلام لتسليط الضوء على النماذج الإيجابية بعيدًا عن البذخ.

• صنّاع القرار لتوفير برامج دعم تساعد الشباب على بدء حياتهم.

الخاتمة: زواج القلوب لا المظاهر

الزواج ليس صفقة، ولا استعراضًا للقدرة المادية، بل هو ميثاق غليظ بين روحين قررا أن يبدآ طريقًا مشتركًا بكل ما فيه من تحديات وأمل. وكلما تخلّص المجتمع من عبء المظاهر، وركّز على الجوهر، كلما ارتفعت نسبة الزيجات الناجحة، وتراجعت نسب الطلاق، وتكونت أسر قوية قادرة على بناء مستقبل مشرق.

المراجع:

1. المجلس العربي للطفولة والتنمية، تقرير: تأخر سن الزواج في الوطن العربي، 2023.

2. مركز الأبحاث الاجتماعية والجنائية بالرياض، دراسة حول معدلات الزواج والطلاق، 2022.