موقع أصحاب الكهف الحقيقي

موقع أصحاب الكهف

تُعدّ قصة أصحاب الكهف من أعظم القصص القرآنية التي تحمل في طياتها عبرًا روحية وإيمانية عظيمة، وقد وردت بتفصيل وإعجاز بديع في سورة الكهف، وهي السورة التي سُمّيت باسم هذا الحدث المعجز، وذلك لما تحتويه من دلالات على قدرة الله عز وجل في حفظ عباده المؤمنين، وتدبيره للأمور التي تعلو قدرة البشر على إدراكها. لكن السؤال الذي لطالما أثار اهتمام العلماء والمفسرين والمؤرخين والباحثين هو: أين يقع كهف أصحاب الكهف فعليًا من الناحية الجغرافية؟ وقد تنوّعت الآراء واختلفت الاتجاهات حول تحديد الموقع الحقيقي لهذا الكهف الذي آوى إليه الفتية، وما تزال هذه المسألة إلى اليوم موضوعًا للدراسة والبحث العلمي والتاريخي والديني.

القصة في القرآن الكريم

ذكرت قصة أصحاب الكهف في القرآن الكريم ضمن آيات سورة الكهف من الآية 9 إلى الآية 26، وتحكي عن فتية آمنوا بربهم ورفضوا عبادة الأصنام التي كانت شائعة في مدينتهم. فهربوا إلى كهف ليتحصنوا فيه من بطش الملك الكافر، وهناك أنامهم الله تعالى نومًا عجيبًا استمر لثلاثمائة وتسع سنوات، وهي فترة زمنية ليست فقط طويلة جدًا بل تفوق حدود التصور البشري بالنسبة لنوم الإنسان الطبيعي. وعندما استيقظوا وجدوا أن الأوضاع قد تغيرت، وأن المدينة قد تحولت إلى الإيمان، وأصبح الدين الذي هربوا لأجله هو السائد.

المعايير الجغرافية والتاريخية للبحث عن الموقع

الباحث في تحديد موقع الكهف يحتاج إلى دراسة مجموعة من المعايير المستقاة من النص القرآني نفسه، إضافة إلى الأدلة التاريخية والجغرافية:

• الكهف يجب أن يكون في موقع محاط بمدينة كانت تعبد الأصنام.

• يجب أن يكون اتجاه الكهف بحيث تدخل الشمس منه وتخرج بشكل مائل، كما ورد في قوله تعالى: “وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ” [الكهف: 17].

• وجود آثار أو إشارات تاريخية تتوافق مع ما ورد في الروايات الدينية.

• الموقع يجب أن يكون مناسبًا لحدوث معجزة نوم استمر قرونًا من الزمن مع بقاء الأجساد دون فساد.

المواقع المقترحة لكهف أصحاب الكهف

1. الرقيم – الأردن

يُعتبر الموقع الأكثر ترجيحًا وتوافقًا مع أغلب التفسيرات هو الكهف الواقع في منطقة الرقيم جنوب شرق العاصمة الأردنية عمان، وتحديدًا في قرية الرجيب. هذا الموقع أصبح مزارًا رسميًا، ويُعرف بـ”كهف أهل الكهف”، وقد أجريت فيه تنقيبات أثرية أظهرت وجود مسجدين، أحدهما فوق الكهف مباشرة، كما وُجدت فيه عظام بشرية داخل قبور حجرية يعتقد أنها تعود للفتية.

يتميز الكهف بموقعه الجغرافي المواجه لاتجاه الشمس بما يتطابق مع وصف القرآن. كما عُثر على نقوش بيزنطية وعربية، تدل على أن المكان كان مقدسًا ومحترمًا في عصور مختلفة.

ووفقًا للآثار، يبدو أن الرقيم اسم للمنطقة المحيطة بالكهف وليس الكهف نفسه، وقد ورد ذكره في الآية: “أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا” [الكهف: 9]، وقد رجح كثير من المفسرين أن “الرقيم” هو اسم المدينة أو القرية أو الجبل الذي يقع فيه الكهف.

2. أفسوس – تركيا

من بين الأماكن الأخرى التي يُشار إليها كموقع محتمل لأصحاب الكهف، مدينة أفسوس الواقعة في تركيا الحديثة، وقد ورد في التراث المسيحي الشرقي والغربي أن سبعة فتية استراحوا في كهف هناك بعد فرارهم من بطش الإمبراطور الروماني الوثني دقيانوس. وقد تطابق الاسم “دقيانوس” مع ما ورد في روايات إسلامية متعددة. كما أن كنيسة عظيمة بُنيت فوق الكهف ما تزال آثارها قائمة في جبل بانير بتركيا، الأمر الذي يدفع بعض الباحثين إلى اعتبار هذا الموقع مرشحًا قويًا.

3. كهف في جبل أنطاكية – سوريا

من المقترحات الأخرى هو كهف في مدينة أنطاكية القديمة شمال غرب سوريا، إذ كانت هذه المدينة مركزًا هامًا في العصور الرومانية، وقد ارتبطت بتواريخ المسيحية المبكرة وحدث فيها اضطهاد للمؤمنين. ولكن لا توجد دلائل قوية تربط هذا الموقع بقصة أصحاب الكهف من حيث الاتجاه الجغرافي للشمس أو طول فترة النوم.

4. كهف في تونس أو اليمن

ورد في بعض الروايات غير المؤكدة أن أصحاب الكهف كانوا في شمال إفريقيا وتحديدًا في تونس، بينما اعتقد آخرون أنهم كانوا في اليمن بناءً على تسميات محلية وأسماء أماكن تحمل نفس الأسماء الواردة في الروايات. إلا أن هذه الآراء غالبًا ما تفتقر إلى الأدلة الأثرية القوية.

دراسة مقارنة بين المواقع المقترحة

يتبين من الجدول أن كهف الرقيم في الأردن هو الأكثر اكتمالًا من حيث تطابق المعايير الأثرية والدينية والجغرافية مع قصة أصحاب الكهف الواردة في القرآن الكريم، ما يجعله الوجهة الأكثر قبولًا بين علماء الآثار والتفسير.

الاعتبارات الإيمانية والرمزية

رغم أن التحديد الدقيق للموقع الجغرافي لأصحاب الكهف ليس هو الغاية الأساسية من ذكر القصة في القرآن الكريم، فإن البحث في هذا الجانب يكشف عن مدى الترابط بين النصوص الدينية والحقائق الأثرية. فالقصة في جوهرها تحث على الثبات على الإيمان، واللجوء إلى الله عند اشتداد الفتن، وتدل على قدرة الله على تغيير مجرى الزمان والمكان من أجل حماية من صدقوا في توحيدهم.

وقد تناول المفسرون الإسلاميون موضوع كهف أصحاب الكهف باعتباره معجزة إلهية تؤكد على قدرة الله في التحكم بالنواميس الكونية كالنوم، والزمن، والحياة والموت. وبناءً عليه، فإن وجود آثار تتطابق مع هذه القصة لا يزيد القصة مصداقية، لأن اليقين بها هو من صميم العقيدة، وإنما يخدم زيادة التدبر والتأمل في آيات الله.

رأي المفسرين المسلمين في تحديد الموقع

معظم المفسرين المسلمين، كابن كثير، والطبري، والقرطبي، أشاروا إلى أن القصة لم تُحدّد جغرافيًا بشكل صريح، ولذلك فإن الجدل حول الموقع ليس جوهريًا. وقد اعتمد بعضهم على الروايات الإسرائيلية لتحديد أسماء الأماكن، بينما رفض آخرون الاعتماد عليها ما لم يكن لها سند واضح. لكن هناك شبه إجماع بين المعاصرين أن كهف الرقيم هو الأقرب تطابقًا لما ورد في النصوص، سواء من حيث عدد القبور داخل الكهف، أو وجود الكتابات القديمة، أو اتجاه دخول الشمس وخروجها.

الزوايا السياحية والدينية

تحوّل كهف الرقيم إلى مزار ديني وسياحي، حيث يقصده آلاف الزوار من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، للتأمل في آيات الله، وزيارة المسجد الذي بني فوق الكهف، ومشاهدة القبور المحفورة داخل الجبل. وقد قامت الحكومة الأردنية بترميم الموقع وتنظيمه ليستقبل الزائرين، كما تم وضع لوحات تفسيرية للآيات والآثار.

أما كهف أفسوس في تركيا، فهو أيضًا مزار مهم لدى المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك الذين يرون فيه مكانًا مقدسًا استراح فيه فتية الإيمان. وهذا التقاطع بين الرواية الإسلامية والمسيحية يعزز من رمزية القصة كتراث ديني عابر للحدود.

الخاتمة العلمية

السعي لمعرفة موقع كهف أصحاب الكهف ليس مجرد بحث أثري، بل هو دراسة متكاملة تشمل الجغرافيا، التاريخ، علوم الأرض، علم النصوص، والأنثروبولوجيا الدينية. وفي ظل تعدد الفرضيات والآراء، يظل كهف الرقيم في الأردن هو المرشح الأقرب من حيث الأدلة المتكاملة. ومع ذلك، فإن القيمة الحقيقية لهذه القصة تبقى في مغزاها الإيماني والتربوي، لا في موقعها المادي.

المراجع

1. الطبري، “جامع البيان في تأويل القرآن”، دار الفكر.

2. وزارة الأوقاف الأردنية – دليل كهف الرقيم السياحي والأثري، عمان، 2021.