يوغرطة: بطل نوميديا المقاوم

يوغرطة: القائد النوميدي الذي تحدى روما

يُعد يوغرطة (Jugurtha) من أبرز الشخصيات التاريخية في شمال إفريقيا خلال العهد القديم، وخصوصًا في الفترة التي تزامنت مع التوسع الروماني في الحوض الغربي للمتوسط. هذا القائد النوميدي الشجاع، الذي وُلد في القرن الثاني قبل الميلاد، دخل التاريخ من أوسع أبوابه ليس فقط بفضل نسبه الملكي وانتمائه إلى الأسرة الماسيلية النوميدية، بل أيضًا لتمرده الجريء ضد الهيمنة الرومانية ومقاومته الحازمة التي استمرت لسنوات، مما أثار جدلاً سياسياً واسعاً داخل روما ذاتها. يوغرطة يمثل نموذجًا فريدًا في التاريخ القديم للقائد المقاوم الذي تحدى إحدى أقوى الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ القديم.

النشأة والنسب

ولد يوغرطة حوالي عام 160 قبل الميلاد، في مملكة نوميديا الواقعة في شمال أفريقيا، وهي المنطقة التي تغطي اليوم أجزاءً من الجزائر وتونس. ينحدر من الأسرة الحاكمة النوميدية، وتحديدًا من نسل ماسينيسا، الملك المؤسس للمملكة النوميدية الموحدة، والذي كان حليفًا قويًا لروما في الحرب البونيقية الثالثة ضد قرطاج.

لكن يوغرطة لم يكن الابن الشرعي للملك ميكيسا، بل كان ابنًا غير شرعي لإحدى نسائه، ورغم ذلك تم تبنيه لاحقًا من قِبل ميكيسا، الذي لم يكن لديه ورثة أقوياء غيره، وأصبح بذلك أحد أبرز الأمراء المؤهلين لوراثة العرش بعد وفاة الملك.

الخلفية السياسية لنوميديا في عهد يوغرطة

كانت نوميديا خلال تلك الفترة تحت تأثير مباشر وغير مباشر لروما، إذ لم يكن بإمكان أي حاكم فيها اتخاذ قرارات جوهرية دون موافقة السلطات الرومانية. ومع ازدياد التوترات السياسية والعسكرية في حوض المتوسط، خصوصًا بعد تدمير قرطاج، أصبحت نوميديا أداة من أدوات السياسة الرومانية، ما زاد من تعقيد الصراعات الداخلية على السلطة، خاصة بين الأمراء الطامحين للعرش بعد وفاة الملك ميكيسا سنة 118 ق.م.

وبعد وفاته، أوصى ميكيسا بأن يتم تقسيم المملكة بين ثلاثة من أبنائه: يوغرطة، وهيامبسال، وأدربال. هذا التقسيم لم يكن ناتجًا عن اتفاق بين الورثة الثلاثة، بل كان في جوهره صراعًا مؤجلًا على السلطة، سرعان ما تفجر بعد وقت قصير من وفاة الملك.

صعود يوغرطة إلى الحكم

كان يوغرطة من الشخصيات التي امتلكت كاريزما قيادية مميزة، وقدرة على المناورة السياسية والعسكرية. امتلك خبرة قتالية معتبرة، خصوصًا بعد مشاركته ضمن القوات الرومانية في حصار نومانتيا في إسبانيا. هناك، تمكن من فهم العقلية العسكرية والسياسية الرومانية، كما استطاع نسج علاقات متينة مع بعض القادة الرومان، وهو ما سيستفيد منه لاحقًا في صراعه ضدهم.

بعد وفاة ميكيسا، اندلع النزاع على الحكم، وقام يوغرطة باغتيال ابن عمه هيامبسال ليستأثر بجزء أكبر من المملكة. أما أدربال، ففر إلى روما طالبًا دعمها ضد يوغرطة. تدخلت روما وفرضت على يوغرطة القبول بتقسيم جديد للمملكة، لكنه لم يكن راضيًا، وبدأ بالتخطيط لإزاحة أدربال نهائيًا من المشهد.

في عام 112 ق.م، حاصر يوغرطة مدينة سيرتا، حيث لجأ إليها أدربال، وبعد أن استسلم الأخير، قام يوغرطة بإعدامه مع عدد من التجار الإيطاليين، مما شكل استفزازًا مباشرًا لروما.

الحرب اليوغرطية (112 – 105 ق.م)

أدى قتل يوغرطة للتجار الإيطاليين في سيرتا إلى اندلاع الحرب المعروفة باسم “الحرب اليوغرطية”، والتي استمرت سبع سنوات. دخلت روما الحرب مدفوعة بعاملين أساسيين: الانتقام لمقتل المواطنين الرومان، والحفاظ على هيبتها وسط شعوب البحر المتوسط.

شهدت الحرب مراحل متعددة، كانت فيها الكفة تميل أحيانًا إلى يوغرطة، وأحيانًا إلى روما. استخدم يوغرطة مزيجًا من الحرب التقليدية وحرب العصابات، معتمدًا على التضاريس الصحراوية والصخرية لنوميديا وعلى تحالفاته القبلية الداخلية.

لكن يوغرطة لم يقف أمام قوة روما العسكرية فقط، بل واجه كذلك فساد الطبقة السياسية الرومانية. فقد تمكن في البداية من رشوة عدد من القادة الرومان لتخفيف الضغط عليه، كما تأخر الحكم عليه داخل مجلس الشيوخ بسبب تدخل بعض أصحاب النفوذ.

غير أن ظهور قادة عسكريين جدد في الساحة السياسية الرومانية، مثل القائد غايوس ماريوس ومساعده لوسيوس سولا، غيّر مجريات الحرب. تمكن هؤلاء من تقويض مواقع يوغرطة وتحقيق انتصارات متتالية عليه.

القبض على يوغرطة ونهايته

في سنة 105 ق.م، وبفضل الدهاء السياسي والعسكري لسولا، تمكنت القوات الرومانية من إقناع الملك بوكوس، صهر يوغرطة وحليفه من مملكة موريطانيا (المغرب المعاصر)، بخيانة صهره وتسليمه إلى الرومان. تمت العملية في سرية تامة، وتم تسليم يوغرطة إلى ماريوس، الذي اقتاده إلى روما مكبلاً بالسلاسل.

في عام 104 ق.م، تم عرض يوغرطة في شوارع روما ضمن موكب النصر الذي أقامه ماريوس، وهي العادة التي كانت تقام للاحتفال بانتصارات الجنرالات الرومان على أعدائهم. بعد ذلك تم سجنه في زنزانة تحت الأرض، وهناك مات إما جوعًا أو إعدامًا.

إرث يوغرطة وتاريخه

ترك يوغرطة إرثًا سياسيًا وعسكريًا كبيرًا في شمال إفريقيا، حيث يُعد من أوائل القادة الذين قاوموا الاحتلال الروماني بطريقة منظمة وفعالة. مثّل رمزًا للكرامة الوطنية ورفض الخضوع للهيمنة الأجنبية، وأصبح لاحقًا أيقونة في التاريخ المغاربي.

لم يكن يوغرطة مجرد قائد عسكري، بل كان رجل دولة حقيقي، أدرك تعقيدات المشهد السياسي في عصره، وحاول استغلال التناقضات الداخلية في روما لخدمة قضيته. وبالرغم من هزيمته، فإن مقاومته ساهمت في كشف حجم الفساد داخل الطبقة الحاكمة الرومانية، وأججت الصراعات السياسية التي مهدت لانهيار النظام الجمهوري لاحقًا.

الأبعاد الثقافية والسياسية لقصة يوغرطة

سجل المؤرخ الروماني سالوست (Sallust) سيرة يوغرطة في مؤلفه المعروف Bellum Jugurthinum (حرب يوغرطة)، حيث اعتبر أن الحرب ضد يوغرطة كشفت عن عمق الانحلال الأخلاقي والسياسي في روما، خاصة على مستوى مجلس الشيوخ والنخبة الحاكمة. وتُظهر كتابات سالوست كيف استغل يوغرطة هذا الانحلال في البداية لصالحه، قبل أن يُقلب عليه الوضع عندما تمكن المصلحون الجدد من فرض قبضتهم على القرار العسكري.

وبالنسبة للشعوب المغاربية، أصبحت قصة يوغرطة ملهمة في سرديات المقاومة الوطنية، خاصة في سياقات الاستعمار الفرنسي والإيطالي في القرن التاسع عشر والعشرين، حيث أُعيد إحياء شخصيته باعتباره من أوائل المقاومين المحليين للتدخلات الأجنبية.

الموقع التاريخي لنوميديا في عهد يوغرطة

كانت نوميديا في عهد يوغرطة من أكثر المناطق تقدمًا في شمال إفريقيا من حيث التنظيم السياسي والاجتماعي. تميزت بوجود جيش منظّم، وإدارة مركزية، وعلاقات خارجية فاعلة. كما استفادت من قربها من قرطاج ومن بعدها من روما، مما أكسبها تقنيات إدارية وحربية متقدمة نسبيًا.

وكانت المدن النوميدية الكبرى مثل سيرتا، ميلاك، وطمغادي مراكز حيوية للحياة الاقتصادية والثقافية، واستفاد يوغرطة من هذه البنية التحتية في إدارة حربه، خصوصًا في الجوانب اللوجستية والتعبوية.

جدول زمني مختصر لأهم محطات حياة يوغرطة

المراجع

1. Sallust, The Jugurthine War. Translated by S. A. Handford. Penguin Classics, 1963.

2. Serge Lancel, Histoire de l’Afrique ancienne. Éditions du Seuil, 1990.