ما العمل لوقف العنف الأسري؟

يُعد العنف الأسري من أخطر التحديات الاجتماعية التي تهدد استقرار الأسرة والمجتمع على حد سواء، إذ يُخلف آثارًا نفسية، جسدية، واجتماعية خطيرة لا تقتصر على الضحية فحسب، بل تمتد لتشمل الأطفال والمحيطين والمجتمع بأسره. يتخذ العنف الأسري أشكالًا متعددة تتراوح بين العنف الجسدي، النفسي، الاقتصادي، والجنسي، وهو غالبًا ما يحدث خلف الأبواب المغلقة، ما يزيد من صعوبة الكشف عنه والتعامل معه. تتفاوت دوافعه بين عوامل ثقافية، اقتصادية، نفسية، وتربوية، ما يستوجب تبني استراتيجية شاملة للحد من هذه الظاهرة ومعالجتها بشكل جذري.

تتطلب مكافحة العنف الأسري فهمًا عميقًا لطبيعته وآثاره، ومن ثم تصميم منظومة تدخل متعددة الأبعاد تشمل الجانب القانوني، التربوي، الاجتماعي، والإعلامي. إن الوقوف في وجه هذه الآفة لا يقتصر على الضحايا أو الجهات الرسمية فقط، بل يستدعي تضامن المجتمع بأكمله، من مؤسسات وأفراد، لبناء ثقافة أسرية قائمة على الاحترام، الحوار، والمساواة.

أولًا: الإطار القانوني والتشريعي لمواجهة العنف الأسري

يمثل الإطار القانوني أحد الأعمدة الأساسية في مكافحة العنف الأسري، حيث يُمكّن الضحايا من اللجوء إلى العدالة ويُحاسب المعتدين.

• سنّ تشريعات صارمة: يجب أن تتضمن القوانين عقوبات واضحة وصارمة ضد مرتكبي العنف الأسري، بما في ذلك العنف الجسدي، النفسي، الاقتصادي، والجنسي. يجب أن تكون هذه القوانين شاملة ولا تترك ثغرات قد يستغلها المعتدون للإفلات من العقاب.

• توفير الحماية القانونية للضحايا: ينبغي أن تشمل القوانين آليات لحماية الضحايا، مثل إصدار أوامر الحماية، منع الاقتراب، وتوفير مساكن مؤقتة آمنة لهم.

• إنشاء محاكم أسرية مختصة: وجود قضاء متخصص في قضايا الأسرة يُساهم في تسريع الإجراءات ويضمن حساسية أكبر تجاه طبيعة هذه القضايا، بعيدًا عن التحيزات الاجتماعية أو الثقافية.

• ضمان الحق في الدعم القانوني: يجب توفير خدمات الدعم القانوني المجاني أو بأسعار رمزية للضحايا غير القادرين على تحمل تكاليف المحامين والإجراءات القضائية، وذلك لضمان عدم سقوطهم في فخ العجز القانوني.

ثانيًا: الدور التربوي في الوقاية من العنف الأسري

التنشئة الاجتماعية تمثل حجر الأساس في الوقاية من العنف الأسري، حيث أن القيم والمفاهيم التي يتلقاها الفرد منذ الصغر تشكل نظرته للعلاقات الأسرية وللآخرين.

• إدراج مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج: يجب أن تتضمن المناهج الدراسية موضوعات تتعلق بالمساواة بين الجنسين، احترام الآخر، ورفض العنف بكافة أشكاله، مع ربطها بسياقات الحياة اليومية.

• تدريب المعلمين على اكتشاف علامات العنف: يمكن للمدرسة أن تلعب دورًا في الكشف المبكر عن حالات العنف الأسري من خلال تدريب المعلمين على ملاحظة سلوكيات غير معتادة لدى الطلاب، مثل الانطواء، الخوف، أو آثار جسدية.

• دعم التربية الوالدية الإيجابية: من خلال برامج توعوية وإرشادية للآباء والأمهات، يتم تقديم نماذج بديلة للتربية تقوم على الحوار والتفاهم بدلًا من العنف والتهديد.

• تعزيز الذكاء العاطفي لدى الأطفال: تعليم الأطفال كيفية التعامل مع الغضب، الخوف، والضغط النفسي يُعد وسيلة فعالة لتقليل فرص تحولهم إلى ضحايا أو معتدين في المستقبل.

ثالثًا: الجانب النفسي والاجتماعي في دعم الضحايا

يمر ضحايا العنف الأسري بمراحل متعددة من الصدمة، الإنكار، الاكتئاب، والخوف، مما يتطلب توفير دعم نفسي متكامل لهم.

• توفير مراكز تأهيل نفسي للضحايا: هذه المراكز تقدم العلاج النفسي السلوكي، الدعم الاجتماعي، وبرامج تقوية الثقة بالنفس، وهي ضرورية لمساعدة الضحايا على التعافي.

• خدمات الدعم الاجتماعي: يشمل ذلك توفير سكن آمن، مساعدات مالية، ودورات تأهيل مهني تساعد الضحية على الاستقلال الاقتصادي الذي يُعد من أهم ركائز التحرر من دائرة العنف.

• برامج إعادة تأهيل المعتدين: ليس الهدف من العقوبة وحدها هو الحل، بل يجب العمل على إعادة تأهيل المعتدين من خلال برامج متخصصة تهدف إلى تعديل سلوكهم والحد من احتمالية تكرار العنف.

رابعًا: دور الإعلام في كسر الصمت حول العنف الأسري

الإعلام، بكافة أنواعه، يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الوعي المجتمعي وتوجيه السلوكيات، ولذلك فإن تبني خطاب إعلامي مسؤول يعد أداة فعالة في مواجهة العنف الأسري.

• نشر قصص حقيقية للضحايا: تسليط الضوء على معاناة الضحايا، ضمن احترام خصوصيتهم، يُساهم في كسر جدار الصمت ويشجع الآخرين على التحدث.

• برامج توعوية مستمرة: تقديم محتوى إعلامي مُعدّ بعناية يتناول أشكال العنف الأسري، طرق الوقاية، وسبل الدعم المتاحة، يُعزز من الثقافة الحقوقية داخل المجتمع.

• مواجهة الصور النمطية: يجب أن يتوقف الإعلام عن تعزيز الصور النمطية التي تُكرّس تبعية المرأة أو تبرر العنف، مثل تلك التي تصور الرجل دائمًا كمعيل وحاكم مطلق للأسرة.

• استخدام وسائل التواصل الاجتماعي: تُعد هذه الوسائل منصة قوية يمكن استخدامها لنشر رسائل توعوية، تسليط الضوء على القصص، وتسهيل وصول الضحايا إلى الجهات المساعدة.

خامسًا: تمكين المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا

يُعتبر التمكين الاقتصادي والاجتماعي للمرأة من أنجع الطرق للحد من العنف الأسري، إذ أن ضعف الاستقلالية الاقتصادية والاجتماعية يُعد من أبرز الأسباب التي تُبقي النساء داخل علاقات عنيفة.

• دعم فرص العمل والتدريب المهني للنساء: إنشاء برامج تدريب مهني وتوظيف موجهة خصيصًا للنساء اللواتي تعرضن للعنف، يمنحهن فرصة بناء حياة مستقلة.

• تسهيل الوصول إلى التمويل والمشروعات الصغيرة: منح قروض صغيرة بدون فوائد أو بضمانات بسيطة يُساعد النساء على بدء مشروعات صغيرة توفر لهن دخلاً ثابتًا.

• رفع الوعي القانوني لدى النساء: كثير من النساء يجهلن حقوقهن القانونية، مما يسهل استغلالهن. لذلك، من الضروري تنظيم ورشات تعريفية بحقوق الأسرة، الحضانة، الطلاق، والنفقة.

سادسًا: إشراك المجتمع المدني والمؤسسات الدينية

المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدينية تمتلك تأثيرًا كبيرًا في تشكيل الوعي الجمعي، ويمكنها لعب أدوار متعددة لمواجهة العنف الأسري.

• المبادرات المجتمعية: إطلاق مبادرات تهدف إلى التوعية بالعنف الأسري وتقديم خدمات استشارية أو قانونية، مع إشراك متطوعين من مختلف الفئات.

• برامج التثقيف الأسري: عقد ورش عمل دورية للأزواج المقبلين على الزواج تُعنى بمواضيع التواصل الأسري، حل الخلافات، والتعامل مع التوترات.

• دور رجال الدين: تقديم خطاب ديني معتدل يُدين العنف الأسري، ويُعزز من قيم الرحمة والمودة داخل الأسرة، يساعد على تغيير المفاهيم الثقافية التي تبرر العنف.

سابعًا: البيانات والإحصاءات كأساس للتخطيط والتدخل

من دون بيانات دقيقة وشاملة، لا يمكن تصميم سياسات فعالة لمكافحة العنف الأسري. لذلك فإن جمع وتحليل البيانات يُمثل خطوة أساسية.

• إنشاء قاعدة بيانات وطنية: يتم فيها تسجيل جميع حالات العنف الأسري المبلغ عنها، بما في ذلك تفاصيل مثل نوع العنف، عمر الضحية، الوضع الاقتصادي، وغيرها من المعطيات.

• إجراء دراسات ميدانية دورية: الدراسات النوعية والكمية تسهم في الكشف عن الاتجاهات والتغيرات في معدلات العنف، مما يساعد في تقييم فعالية التدخلات المتبعة.

• إشراك الجامعات والمراكز البحثية: دعم الأبحاث العلمية حول العنف الأسري من زوايا متعددة، سواء النفسية، الاجتماعية، أو الاقتصادية.

ثامنًا: إنشاء خطط وطنية شاملة لمكافحة العنف الأسري

ينبغي أن تكون هناك استراتيجية وطنية موحدة لمكافحة العنف الأسري، يتم فيها تحديد الأهداف، الجهات المسؤولة، آليات التنفيذ، ومؤشرات القياس.

عناصر الخطة الوطنية لمكافحة العنف الأسري:

خاتمة

مواجهة العنف الأسري تتطلب تحركًا متكاملًا ومترابطًا على مختلف الأصعدة، القانونية، التربوية، الاجتماعية، والاقتصادية. كما أن التصدي لهذه الظاهرة لا يقتصر على الجهات الرسمية وحدها، بل يُعد مسؤولية جماعية تقع على عاتق الأسرة، المدرسة، الإعلام، مؤسسات المجتمع المدني، والمواطنين كافة. إن بناء مجتمع خالٍ من العنف يبدأ ببناء وعي جمعي يؤمن بأن الكرامة، المساواة، والاحترام، ليست شعارات تُرفع، بل أسس لا غنى عنها لأي علاقة أسرية صحية وسليمة.

المراجع:

1. تقرير الأمم المتحدة حول العنف القائم على النوع الاجتماعي – هيئة الأمم المتحدة للمرأة، 2022.

2. دليل منظمة الصحة العالمية حول الاستجابة للعنف المنزلي – WHO, Responding to Intimate Partner Violence, 2021.