كيف مات صلاح الدين الأيوبي: تحليل شامل للحظات الأخيرة في حياة أحد أعظم القادة المسلمين
صلاح الدين الأيوبي، الاسم الذي ارتبط في الذاكرة التاريخية الإسلامية والعالمية بالعدل، النبل، والبطولة. هو يوسف بن أيوب بن شاذي، الذي بزغ نجمه في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، وأصبح سلطانًا على مصر والشام والحجاز واليمن وديار بكر، ومؤسس الدولة الأيوبية. عرف بتوحيد صفوف المسلمين في مواجهة الحملات الصليبية، واشتهر بتحرير القدس من أيدي الصليبيين في معركة حطين سنة 1187م، بعد أن كانت تحت سيطرتهم لمدة 88 عامًا.
لكن رغم سطوع نجمه العسكري والسياسي، فإن نهايته كانت متواضعة، تغلفها لحظات مرض طويل، ومعاناة جسدية، وعبء روحي ثقيل، في وقت كانت الأمة التي خدمها تعيش مرحلة دقيقة من التاريخ. لم يكن موت صلاح الدين الأيوبي حدثًا عابرًا، بل شكل نقطة فاصلة في تاريخ المشرق الإسلامي، حيث أطلق برحيله العنان لتغييرات سياسية وعسكرية هائلة، لم تكن كلها في صالح الأمة.
في هذا المقال، نتناول بدقة وتحليل علمي طبيعة مرضه، أسباب وفاته، السياق التاريخي الذي أحاط بأيامه الأخيرة، وما ترتب على وفاته من تداعيات سياسية واجتماعية.
الحالة الصحية لصلاح الدين الأيوبي في أواخر حياته
في العقد الأخير من حياته، تعرض صلاح الدين الأيوبي لضغوط سياسية وإدارية وعسكرية هائلة. إذ لم يكن سلطانه مستقرًا بالكامل، رغم انتصاراته الكبيرة. كما أن مهامه في إدارة دولة مترامية الأطراف، ضمت مصر والشام وأجزاء من الجزيرة العربية والعراق، أنهكته بدنيًا ونفسيًا. عُرف عنه الزهد في الدنيا، وكان يعيش ببساطة، لا يأكل إلا القليل، ولا ينام إلا قليلاً، وكان يقوم الليل ويصوم النهار كثيرًا.
بحسب المؤرخين، بدأ صلاح الدين يعاني من تدهور صحته بشكل تدريجي منذ عام 588 هـ (1192م)، وهي السنة التي عقد فيها صلح الرملة مع ريتشارد قلب الأسد. بعد هذه السنة، بدا عليه التعب الجسدي، وبدأت نوبات الحمى تُلمّ به بين الفينة والأخرى. وقد روى المؤرخون مثل ابن الأثير والعماد الأصفهاني أن صلاح الدين كان يعاني من نوبات إرهاق شديدة، وقلة النوم، وصعوبة في الهضم، مما يشير إلى اضطرابات جهازية متعددة يمكن تحليلها وفق الطب الحديث.
المرض الذي أودى بحياته
في شهر صفر من سنة 589 هـ (مارس 1193م)، اشتد عليه المرض فجأة. ووفق المصادر التاريخية، فإن صلاح الدين أصيب بحمى شديدة، رافقتها نوبات من التعرق المفرط والضعف العام، مما يُرجّح إصابته بمرض معدي شديد مثل التيفوئيد أو أحد أنواع الحمى النزفية التي كانت شائعة في العصور الوسطى.
تشير بعض التحليلات الحديثة إلى أنه ربما أصيب بالتهاب رئوي حاد، خاصة وأنه عانى من سعال شديد، وضيق في التنفس، وارتفاع حرارة الجسم، وهي أعراض تتطابق مع مرض ذات الرئة. كما أن التدهور السريع في حالته الصحية، الذي أدى إلى وفاته خلال بضعة أيام، يعزز هذا الاحتمال.
من جهة أخرى، هناك من يشير إلى احتمال إصابته بالفشل الكلوي نتيجة لتراكم السموم في جسده بسبب سوء التغذية والضغط النفسي المزمن، وهو ما قد يفسر شحوب لونه وتورم أطرافه، كما ذكر شهود عيان من معاصريه.
اللحظات الأخيرة في حياته
خلال الأيام الأخيرة من حياته، كان صلاح الدين طريح الفراش في قصره بدمشق. وُضع تحت رعاية أطبائه الشخصيين، وحضره كبار فقهاء الشام وأمراء الدولة وأبناؤه وأخوته. بقي في وعيه حتى اللحظات الأخيرة، وذكر المؤرخون أنه لم يتوقف عن التسبيح والاستغفار وقراءة القرآن، خاصة سورة “الناس” و”الفاتحة”.
روى العماد الأصفهاني أن صلاح الدين، في ساعاته الأخيرة، طلب من خادمه أن ينادي المؤذن ليؤذن للصلاة، رغم أنه كان يحتضر، وظل يردد “لا إله إلا الله” حتى فاضت روحه إلى بارئها في فجر يوم الأربعاء 27 صفر 589 هـ، الموافق 4 مارس 1193م، عن عمر يناهز 55 عامًا.
جنازته ودفنه
شُيّعت جنازة صلاح الدين الأيوبي في دمشق تشييعًا مهيبًا، حضره علماء الشام وكبار قادة الدولة والجماهير الغفيرة. دُفن في باحة المسجد الأموي، ثم نُقل جثمانه إلى الضريح الذي بُني له إلى جوار المسجد، ولا يزال قائماً حتى اليوم في دمشق القديمة، ويعد من المعالم التاريخية البارزة.
ما يثير الدهشة أن السلطان الذي حكم أراضي واسعة لم يترك بعد وفاته سوى 47 درهماً من الفضة، ولم يخلّف دارًا أو عقارًا، وهو ما يؤكد زُهده وبعده عن الترف، رغم أن سلطته كانت من أعظم السلطات في ذلك العصر.
الجدول التالي يلخص الأعراض المحتملة التي عانى منها صلاح الدين الأيوبي، وتفسيراتها الطبية الحديثة:
| العَرَض الموصوف تاريخيًا | التفسير الطبي المحتمل |
|---|---|
| الحمى الشديدة المتكررة | التيفوئيد، أو التهاب رئوي حاد |
| السعال وضيق التنفس | ذات الرئة أو عدوى تنفسية حادة |
| التعرق المفرط والضعف العام | حمى فيروسية أو فشل عضوي |
| فقدان الشهية ونحول الجسم | متلازمة الهزال نتيجة عدوى مزمنة أو أمراض كلوية |
| تورم في الأطراف (غير مؤكد تاريخيًا) | فشل كلوي مزمن أو قصور قلبي |
التداعيات السياسية بعد وفاته
بعد وفاة صلاح الدين، دخلت الدولة الأيوبية مرحلة من الضعف السياسي النسبي بسبب النزاعات بين أبنائه وأشقائه على السلطة. فقد قسّم صلاح الدين مملكته قبيل وفاته بين أبنائه، ما أدى إلى حالة من التنازع على الحكم، أضعفت مركزية الدولة، وساهمت في إضعاف قدرتها على التصدي للحملات الصليبية الجديدة التي بدأت تتشكل لاحقًا.
ابنه الأكبر، الأفضل علي، تولى حكم دمشق، في حين تولى العزيز عثمان حكم مصر، وتوزعت بقية الأقاليم بين باقي الأبناء والإخوة، لكن هذا التوزيع لم يُحقق الاستقرار، بل أطلق صراعات طويلة ساهمت في انهيار وحدة الدولة الأيوبية لاحقًا.
الأثر الدائم لوفاة صلاح الدين
رغم وفاة صلاح الدين الأيوبي، بقيت صورته التاريخية ملهمة لقرون متتالية. فرسان أوروبا الذين واجهوه في ساحات المعارك، أمثال ريتشارد قلب الأسد، كتبوا عنه بإعجاب كبير، وأشادوا بأخلاقه وشجاعته وإنسانيته في التعامل مع الأسرى والخصوم. أما في العالم الإسلامي، فقد تحوّل إلى رمز خالد للمقاومة والوحدة، وبقيت ذكراه تُستحضر كلما تكررت تحديات الأمة.
لقد جسّد صلاح الدين نموذج القائد العادل الزاهد، الذي لم تغيره السلطة ولا الثروة، وظل حتى آخر لحظاته مخلصًا لدينه وشعبه ومبادئه، مؤمنًا برسالته في تحرير الأرض والدفاع عن الحق، ومات كما عاش: عفيفًا، مهيبًا، نقيًا من كل شوائب الطمع والترف.
المصادر والمراجع:
-
ابن الأثير، “الكامل في التاريخ”، دار الكتب العلمية، بيروت.
-
العماد الأصفهاني، “البرق الشامي”، تحقيق: ناصر الدين الأسد، دار المعارف، القاهرة.
