كم من النجاح محض حظ؟ نظرة تحليلية فلسفية وعلمية

يُعد النجاح من أكثر المفاهيم التي شغلت العقل البشري عبر العصور، ولا يزال الجدل قائماً حول ماهية العوامل التي تؤدي إليه، وما إذا كان الحظ يلعب دوراً محورياً فيه أم أن الجهد والمثابرة والتخطيط هي المفاتيح الحقيقية له. في هذا السياق، يبدو من الصعب الوصول إلى إجابة قاطعة. إلا أن تحليل أبعاد الحظ ودوره في منظومة النجاح يفرض ضرورة التمييز بين عناصر عديدة تتداخل وتتشابك، منها العوامل الوراثية، والظروف الاجتماعية، والسياسات الاقتصادية، فضلاً عن السياقات التاريخية والثقافية.

في هذا المقال، سيتم تناول الموضوع بشكل موسّع وعميق من زوايا فلسفية، ونفسية، واجتماعية، واقتصادية، وعلمية، في محاولة لفهم إلى أي مدى يمكن اعتبار النجاح نتاجًا للحظ وحده، أو ما إذا كان الحظ مجرد عنصر مساعد في منظومة أعقد من ذلك بكثير.

الحظ من منظور الفلسفة والميتافيزيقا

منذ أفلاطون وأرسطو وحتى نيتشه وسارتر، ظل مفهوم الحظ محط جدل فكري. يرى بعض الفلاسفة، كأرسطو، أن الحظ ما هو إلا ظاهرة عارضة، لا يمكن الاتكال عليها، وأن الفضيلة والمهارة هما أساسا النجاح. في المقابل، نجد أن المذهب العبثي كما عبّر عنه ألبير كامو، يطرح فكرة أن عبثية الوجود تجعل من الحظ، في كثير من الأحيان، العامل الوحيد في مسيرة حياة الإنسان، لأن الواقع لا يسير بالضرورة وفق منطق العدالة أو الاستحقاق.

الحظ في هذا السياق يتقاطع مع مفاهيم مثل “القدر”، و”الصدفة”، و”التوقيت”، وهي كلها مفاهيم تتجاوز سيطرة الإنسان المباشرة. فلسفة الحتمية أيضًا تلعب دورًا في تعزيز فكرة أن كثيرًا مما نعدّه “اختيارات حرة” أو “إنجازات ذاتية” هي في الحقيقة انعكاسات لعوامل لا واعية، موروثة أو مكتسبة.

المقاربة العلمية والنفسية للحظ

في علم النفس، ظهر اهتمام كبير بدراسة الحظ ليس كمفهوم غامض، بل كظاهرة لها جذور في الإدراك والسلوك البشري. قام الباحث البريطاني ريتشارد وايزمان، في دراسة شهيرة، بمحاولة فهم السمات النفسية التي تميز “المحظوظين” عن “غير المحظوظين”. وخلص إلى أن الأشخاص الذين يُعتبرون محظوظين هم في الواقع أكثر انتباهاً للفرص، وأكثر مرونة في التعامل مع الفشل، وأقدر على بناء علاقات اجتماعية قوية تفتح لهم أبواباً جديدة.

من هذا المنظور، يبدو أن الحظ ليس فقط نتاج صدفة عشوائية، بل سلوك ذكي في استثمار الظروف. أي أن ما يبدو حظًا من الخارج، قد يكون نتيجة غير مرئية لسلسلة من القرارات والتصرفات والسلوكيات.

لكن مع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك ظروفاً بيولوجية وجينية قد تلعب دوراً محورياً في التهيئة للنجاح. الذكاء الوراثي، الحالة الصحية العامة، الصفات الشخصية مثل الانبساطية والانضباط، كلها تؤثر على احتمالية النجاح وتزيد من فرص الاستفادة من الفرص المتاحة.

الأبعاد الاجتماعية والثقافية

ينبغي إدراك أن الإنسان لا يولد في فراغ. بل إن السياق الاجتماعي والثقافي له أثر بالغ على تحديد مسار النجاح. الفرد الذي يولد في بيئة داعمة، تتيح له تعليماً جيداً، وتوفر له شبكة من العلاقات، وتقدّر جهوده، سيكون أكثر قدرة على الوصول إلى النجاح مقارنة بمن يولد في بيئة فقيرة، تعاني من التهميش الاجتماعي أو الاضطرابات السياسية.

الحظ هنا يتجلى في “مكان الميلاد”، و”الأسرة”، و”الطبقة الاجتماعية”، و”الفرص المتاحة”. وهو ما يعرف في علم الاجتماع بمصطلح “اللامساواة البنيوية”، التي تخلق فروقات كبيرة بين الأفراد منذ ولادتهم.

هذا يفسر كيف أن هناك أشخاصًا يصلون إلى مناصب مرموقة بسرعة رغم محدودية كفاءتهم، فقط لأنهم كانوا في “المكان المناسب في الوقت المناسب”. بينما يكافح آخرون لسنوات، دون أن يحققوا الاعتراف أو التقدير.

الحظ في النماذج الاقتصادية وسوق العمل

في علم الاقتصاد والسلوك التنظيمي، تمت دراسة مفهوم “الانحياز إلى النجاة” والذي يشير إلى ميل المجتمعات للتركيز على قصص الناجحين وتجاهل آلاف القصص الفاشلة التي قد تكون متشابهة من حيث الكفاءة والجد والاجتهاد.

أمثلة مثل مؤسسي شركات التكنولوجيا العملاقة تُروى كقصص نجاح فردي مبهر، ولكن نادراً ما يُذكر أن العشرات ممن انطلقوا في نفس الوقت، بنفس الحماس، لم يحققوا شيئاً يُذكر، ليس لأنهم أقل جدارة، بل لأن السوق لم يكن مهيئاً أو لأن التمويل لم يكن متاحًا.

تفسير النجاح هنا لا يمكن أن يكون منطقيًا دون الإشارة إلى عنصر التوقيت: توقيت دخول السوق، توقيت توفر التمويل، توقيت ظهور الحاجة لحل معين. كل هذه متغيرات خارجة عن سيطرة الفرد، ويصعب اعتبارها مجرد نتاج للمجهود الشخصي فقط.

الحظ والذكاء الاصطناعي: هل يمكن نمذجته؟

مع تطور علوم البيانات والذكاء الاصطناعي، بدأت محاولات عديدة لفهم آلية “الحظ” من خلال محاكاة الواقع. إحدى الدراسات التي استخدمت نماذج محاكاة لحياة الأفراد على مدى سنوات عديدة، توصلت إلى نتيجة مفادها أن الأشخاص الأكثر نجاحًا لم يكونوا بالضرورة الأذكى أو الأجدر، بل الأكثر حظًا في مواجهة الظروف العشوائية.

في هذه المحاكاة، أُعطي جميع الأفراد في النموذج مستويات متساوية من الذكاء والطموح، ثم أُدخلت أحداث عشوائية مثل لقاء شخص نافذ أو الفوز بمنحة. وكانت النتيجة أن النجاح الكبير غالباً ما ارتبط بهذه الأحداث العشوائية لا بالمهارات الجوهرية.

هذا النموذج يدعم فرضية أن الحظ يلعب دورًا حيويًا في النجاح، على الأقل في عالم يسوده التنافس الشرس والتقلبات السريعة.

الحظ والنجاح في التاريخ والواقع

عند دراسة مسارات شخصيات تاريخية ناجحة، نجد أن هناك دائماً لحظة محورية كانت خارج سيطرتهم. نيوتن مثلاً لم يكن ليتوصل لقانون الجاذبية لولا تلك “التفاحة” التي سقطت مصادفة. بيل غيتس لم يكن ليؤسس مايكروسوفت لولا توفر جهاز كمبيوتر في مدرسته في وقت لم تكن فيه الحواسيب الشخصية شائعة.

جدول يوضح بعض الشخصيات الناجحة ولحظات “الحظ” الحاسمة في مسيرتهم:

الجهد مقابل الحظ: توازن معقد

رغم كل ما سبق، لا يمكن إنكار دور الجهد والانضباط والتخطيط. إلا أن هذا لا يعني أن الحظ عنصر ثانوي أو يمكن تجاهله. النجاح الحقيقي غالباً ما يكون نتيجة تداخل معقد بين الحظ والمثابرة، بين الموهبة والتوقيت، بين الذكاء والعلاقات الاجتماعية.

بل يمكن القول إن الحظ يفتح الباب، لكن الجهد هو من يقرر إلى أي مدى سيدخل الشخص من هذا الباب. بعض الأشخاص قد يحصلون على فرصة ثمينة، لكن دون استعداد أو رؤية مستقبلية فإنهم لا يستفيدون منها. والبعض الآخر قد يحول فرصة عابرة إلى قصة نجاح مذهلة، لأنهم كانوا مستعدين فكرياً ونفسياً لاقتناصها.

خلاصة تحليلية

النجاح لا يمكن تفسيره من خلال عامل واحد. لا الحظ وحده يكفي، ولا الجهد يكفي دون فرصة. منظومة النجاح ترتكز على مثلث: المهارة – التوقيت – الحظ. غياب أي ضلع من هذا المثلث يجعل الوصول إلى القمة صعبًا أو مستحيلاً.

الحظ موجود، لكنه ليس دائمًا عشوائيًا بالكامل. بل أحيانًا يكون نتيجة غير مباشرة لعوامل سابقة: بناء علاقات، الإصرار، تحسين المهارات، المرونة، أو حتى حسن الظن. ومع ذلك، لا يجب تبرير كل فشل بغياب الحظ، ولا تجريد كل نجاح من كفاءته.

المراجع

1. Wiseman, R. (2003). The Luck Factor: The Scientific Study of the Lucky Mind. Miramax Books.

2. Pluchino, A., Biondo, A. E., & Rapisarda, A. (2018). Talent vs Luck: The Role of Randomness in Success and Failure. Advances in Complex Systems.