مشاريع هدم الأسرة المسلمة: أبعادها، أدواتها، ومقاومتها

في عالم تتسارع فيه التغيرات القيمية والثقافية والاجتماعية، تواجه الأسرة المسلمة واحدة من أخطر التحديات في تاريخها الحديث: مشاريع هدم كيانها وتفكيك بنيتها، ليس فقط من خلال العوامل المادية والاقتصادية، بل عبر أنماط ثقافية وفكرية وإعلامية تتسلل ببطء وفاعلية إلى قلب المجتمعات الإسلامية، مستهدفة الروابط التي تشكل جوهر الأسرة ودعامة الأمة.

لقد أدرك أعداء الأمة الإسلامية منذ قرون أن الأسرة تشكل لبنة البناء الأولى في المجتمع، ومصدر تكوين الشخصية الإسلامية، وحاضنة القيم والأخلاق. ومن هنا كانت مشاريع هدم الأسرة المسلمة هدفًا رئيسيًا في مخططات الاستعمار الثقافي والغزو الفكري الذي يلبس اليوم ثوب “الحداثة” و”الحرية الفردية” و”حقوق الإنسان”، بينما يُخفي في جوهره مشاريع تغريب، تشويه، وتدمير ممنهج للأصالة الإسلامية.

أولاً: مفهوم الأسرة في الإسلام وأهميتها

الأسرة في التصور الإسلامي ليست مجرد تجمع بيولوجي بين رجل وامرأة ينتج عنه أولاد، بل هي مؤسسة ربانية تقوم على المودة والرحمة، وتؤطرها ضوابط شرعية تهدف إلى تحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي، وتربية الأجيال تربية متوازنة تُراعي الجوانب العقدية، السلوكية، والقيمية.

قال تعالى:

“ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”

[الروم: 21]

الأسرة في الإسلام هي المعقل الأول لغرس العقيدة، وتعليم الفروض، وتعزيز الانتماء للأمة، ولذلك فهي هدف رئيسي في أي مشروع يسعى لإضعاف الأمة من الداخل.

ثانياً: مراحل تنفيذ مشاريع هدم الأسرة المسلمة

1. المرحلة الفكرية: التشكيك والتغريب

بدأت أولى محاولات هدم الأسرة المسلمة من خلال التشكيك في ثوابت الدين التي تقوم عليها العلاقة الأسرية، وتصويرها كأنها “عقبات” أمام “التحرر” و”المساواة”. تم الترويج لنماذج أسرية بديلة تتنافى مع الفطرة الإنسانية، كفكرة الاستقلال التام عن العائلة، أو العلاقات المفتوحة، أو الأسرة بدون زواج، أو زواج المثليين، وكلها مفاهيم يتم تصديرها من بيئات غربية منفلتة من كل قيد أخلاقي أو شرعي.

2. المرحلة الإعلامية: التكرار والتطبيع

لم تعد الحملات الإعلامية خجولة أو خفية، بل أصبحت صريحة ومباشرة، تستخدم أدواتها المتمثلة في الدراما، الإعلانات، المسلسلات، والأفلام لتطبيع أنماط سلوكية مرفوضة شرعاً. يتم الترويج للخيانة الزوجية، الاستقلال الأنثوي عن الأسرة، تقزيم دور الرجل، وإظهار الأب أو الزوج المسلم بصورة المتسلط الجاهل. والهدف هو ضرب المرجعيات الأسرية واحداً تلو الآخر.

3. المرحلة القانونية: الشرعنة والفرض

بدأت الكثير من الدول الإسلامية أو ذات الأغلبية المسلمة بإدخال قوانين “حقوقية” جديدة، بعضها مستورد بالكامل من نماذج غربية، مثل قوانين تجريم “تأديب الأبناء”، أو تسهيل الطلاق بدون ضوابط، أو إقرار قوانين تعطي الأولوية للأم في حضانة الأبناء بدون مبرر شرعي، أو إلغاء مفهوم القوامة. هذه القوانين تتسلل تدريجياً تحت شعارات حقوق المرأة والطفل لكنها تسعى لتفكيك بناء الأسرة تدريجياً.

4. المرحلة التربوية: التعليم الموجه

تتضمن مناهج التعليم الحديثة في بعض الدول الإسلامية مفاهيم مشوشة حول الهوية، النوع الاجتماعي، حرية الميول، وإلغاء الفوارق البيولوجية بين الذكر والأنثى. والنتيجة تكون تربية جيل جديد ينظر إلى الأسرة التقليدية نظرة رجعية ويبحث عن نماذج جديدة “تساير العصر”، حسب تعبيراتهم.

ثالثاً: الأدوات المستخدمة في مشاريع الهدم

رابعاً: مظاهر تفكك الأسرة المسلمة

• ارتفاع معدلات الطلاق بشكل غير مسبوق، خاصة بين المتزوجين حديثاً، نتيجة فقدان الوعي بدور كل طرف داخل الأسرة.

• تفشي ظاهرة العزوف عن الزواج، بسبب المفاهيم المشوهة حول الزواج والحرية.

• ضعف دور الوالدين، وغياب التربية القائمة على التوجيه والقدوة.

• تمرد الأبناء، نتيجة تشجيعهم من جهات خارجية على “تحرير أنفسهم” من سلطة الأسرة.

• ظهور أشكال أسرية جديدة، مثل “الزواج الصوري”، أو “المساكنة”، أو “الأسر الأحادية”.

خامساً: نتائج تفكك الأسرة المسلمة على المجتمع

• انهيار القيم الإسلامية وانتشار الفساد الأخلاقي.

• ضعف الانتماء للأمة وانعدام الشعور بالمسؤولية الجماعية.

• تفشي الأمراض النفسية والاجتماعية بين الأطفال والشباب، كالاكتئاب، الإدمان، والعنف.

• تسهيل مشاريع الهيمنة الثقافية والسياسية من الخارج، لغياب الجبهة الداخلية المتماسكة.

سادساً: كيف يمكن مواجهة مشاريع هدم الأسرة؟

إن مقاومة مشاريع هدم الأسرة المسلمة لا تكون بردود انفعالية أو حملات موسمية، بل تتطلب مشروعًا شاملًا متكاملًا يعيد الاعتبار للأسرة بوصفها النواة الحضارية للمجتمع. ويتطلب ذلك:

1. إعادة بناء الخطاب الديني والأسري

يجب أن يُبنى الخطاب الديني اليوم على فهم عميق للتحديات المعاصرة، وتقديم الإسلام كدين واقعي متوازن لا يعزل المرأة ولا يهمش الرجل، بل يحدد لكل فرد دوره بدقة وعدالة.

2. إصلاح القوانين الأسرية

ينبغي الضغط باتجاه إصلاح قوانين الأحوال الشخصية بما ينسجم مع مقاصد الشريعة ويحقق العدالة بين أفراد الأسرة دون الإخلال بتوازنها البنيوي.

3. إحياء دور الأسرة في التعليم والتربية

يجب إعادة الاعتبار لدور الأسرة في التنشئة، ومواجهة هيمنة المنظومات التعليمية المنفصلة عن السياق القيمي الإسلامي، من خلال إنشاء مناهج موازية، مدارس أهلية، أو مجموعات أسرية تربوية.

4. الإعلام الواعي والمضاد

الإعلام الإسلامي يجب أن يكون فاعلاً في إنتاج محتوى يعيد الاعتبار للمنظومة الأسرية، من خلال الدراما والبرامج الحوارية والأفلام الوثائقية التي توضح خطورة ما يُحاك ضد الأسرة.

5. دعم المبادرات المجتمعية

تشجيع المبادرات الهادفة إلى تعزيز العلاقات الأسرية، مثل مراكز التأهيل الزوجي، الاستشارات الأسرية، والبرامج الشبابية التي توضح أهمية الاستقرار الأسري.

6. تمكين الأم المسلمة الواعية

المرأة هي قلب الأسرة النابض، ويجب تمكينها علمياً ودينياً ومعرفياً لتكون قادرة على التصدي لكل حملات التشويه والغزو الناعم.

7. مراقبة المحتوى الرقمي

ينبغي للأسر أن تراقب المحتوى الذي يتعرض له الأبناء، وتوجههم إلى منصات بديلة ملتزمة بالقيم الإسلامية.

سابعاً: النماذج الناجحة في حفظ الأسرة

رغم حجم الحرب على الأسرة، توجد مجتمعات إسلامية ما زالت تحافظ على قدر كبير من تماسكها الأسري، من خلال:

• الحفاظ على الصلة القوية بالقرآن والسنة.

• دعم الزواج المبكر واستقراره.

• برامج توعية أسرية في المساجد والمراكز الإسلامية.

• خطط حكومية لحماية الأسرة كسياسات الدعم الأسري، وتوفير السكن، والتأهيل المسبق للزواج.

خاتمة

إن حماية الأسرة المسلمة مسؤولية جماعية، تبدأ من البيت، وتشمل المجتمع، وتنتهي بسياسات الدولة. فهدم الأسرة لا يعني إلا هدم الأمة بأكملها، وهو ما يُدركه أعداؤنا جيداً، وينبغي أن ندركه نحن أيضاً لنقاومه بكل وعي وإصرار.

المراجع:

1. محمد قطب، واقعنا المعاصر، دار الشروق.

2. عبد الكريم بكار، الأسرة المسلمة في عالم متغير، دار السلام.