هدر الطعام في الدول العربية

يُعد هدر الطعام إحدى القضايا الحيوية والمُلحّة التي تواجه العالم في العصر الحديث، وتتفاقم هذه المشكلة في العديد من الدول العربية رغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تُحتم على المجتمعات إدارة مواردها الغذائية بكفاءة أعلى. تشير الدراسات والإحصاءات إلى أن الدول العربية تسجل نسباً مرتفعة من هدر الغذاء على المستويين الفردي والمؤسسي، ما يجعل هذه الظاهرة تحدياً استراتيجياً يتطلب حلولاً شاملة ومستدامة. في هذا المقال المطول، نسلط الضوء على حجم مشكلة هدر الطعام في العالم العربي، ونستعرض أكثر الدول العربية هدراً للطعام، والعوامل المؤدية لهذه الظاهرة، وانعكاساتها الاقتصادية والبيئية، إلى جانب الجهود المبذولة للحد منها.

مفهوم هدر الطعام وتعريفه

هدر الطعام يشير إلى أي طعام صالح للاستهلاك يتم التخلص منه أو فقده في أي مرحلة من سلسلة الإمداد الغذائي، بدءاً من الإنتاج، مروراً بالتخزين والنقل، ووصولاً إلى الاستهلاك المنزلي أو المؤسسي. تختلف هذه المراحل في مدى مساهمتها في الهدر من دولة إلى أخرى تبعاً للسياسات الغذائية، ومستوى البنية التحتية، والعادات المجتمعية.

نظرة عالمية على هدر الطعام

وفقاً لتقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، يُهدر نحو ثلث الإنتاج الغذائي العالمي، أي ما يعادل 1.3 مليار طن سنوياً. هذا الرقم الهائل له تداعيات ضخمة على الأمن الغذائي العالمي، ويُسهم في تفاقم مشكلات الجوع وسوء التغذية، ويؤدي إلى خسائر اقتصادية تقدر بمليارات الدولارات، بالإضافة إلى الأثر البيئي الناتج عن انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن تحلل الأغذية المهدرَة.

الوضع في الدول العربية: أرقام صادمة

تشير الإحصائيات إلى أن الدول العربية تهدر كميات كبيرة من الطعام، رغم أن بعض هذه الدول تستورد الجزء الأكبر من احتياجاتها الغذائية من الخارج. ويُقدّر أن المنطقة العربية تهدر ما بين 30% إلى 50% من إجمالي الغذاء المنتج أو المستورد، وهو معدل أعلى من المعدل العالمي. هذا الهدر يتم في مراحل مختلفة، من الحقول الزراعية، مروراً بسوء التخزين، وصولاً إلى الإسراف في المناسبات الاجتماعية.

الدول العربية الأكثر هدراً للطعام

فيما يلي جدول يُظهر تقديرات مستويات هدر الطعام السنوي في عدد من الدول العربية، بناءً على تقارير صادرة عن منظمات دولية مثل FAO وWorld Resources Institute ومصادر محلية:

تشير هذه الأرقام إلى وجود تفاوت واضح في نسب الهدر بين الدول، لكنه يبقى عالياً عموماً، خصوصاً في الدول الخليجية ذات الدخل المرتفع والتي تعاني من ثقافة الاستهلاك المفرط، في مقابل دول تعاني من تحديات في البنية التحتية الزراعية والتخزينية كالعراق ومصر والمغرب.

الأسباب الرئيسية لهدر الطعام في العالم العربي

1. العادات الاجتماعية والثقافية

في العديد من الدول العربية، يُنظر إلى الكرم في المناسبات على أنه يرتبط بتقديم كميات كبيرة من الطعام، بغض النظر عن عدد الحاضرين. هذه الثقافة تؤدي إلى طهي كميات تفوق الحاجة بأضعاف، ينتهي بها المطاف إلى النفايات.

2. نقص الوعي الغذائي

غالبية الأفراد لا يدركون حجم الخسائر الناتجة عن رمي الطعام أو تأثيرها الاقتصادي والبيئي، كما لا توجد برامج تثقيفية فعّالة لترسيخ ثقافة الترشيد الغذائي.

3. ضعف سلاسل التبريد والتخزين

في العديد من البلدان العربية، تعاني سلاسل التوريد من ضعف في النقل المبرد والتخزين السليم، ما يؤدي إلى تلف كميات كبيرة من المنتجات الزراعية قبل وصولها للمستهلك.

4. سوء التخطيط في الشراء

الكثير من العائلات تشتري الطعام بكميات تفوق احتياجاتها الأسبوعية، وخصوصاً خلال شهر رمضان، ما يؤدي إلى فساد جزء كبير منه.

5. غياب السياسات الصارمة

لا توجد قوانين ملزمة أو أنظمة رقابية فعالة تُلزم المؤسسات، مثل الفنادق والمطاعم، بتقليل الفاقد من الطعام أو التبرع به.

الأثر الاقتصادي لهدر الطعام

يمثل هدر الطعام خسائر مالية هائلة على مستوى الأفراد والدول. فبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن الدول العربية تخسر سنوياً ما يزيد عن 60 مليار دولار نتيجة لهدر الغذاء. هذه الخسائر لا تتعلق فقط بالطعام نفسه، بل أيضاً بكامل الموارد المستخدمة في إنتاجه: الماء، والطاقة، والأيدي العاملة، والتكاليف اللوجستية.

الأثر البيئي لهدر الطعام

هدر الطعام لا يعني فقط خسارة الموارد، بل يُسهم بشكل مباشر في تدهور البيئة. فالأغذية المهملة تتحلل في مكبات النفايات وتنتج غاز الميثان، وهو أحد أقوى الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري. إضافة إلى ذلك، يُشكل الهدر ضغطاً على موارد المياه والطاقة المحدودة أصلاً في العديد من الدول العربية.

المبادرات والجهود العربية للحد من الهدر

بدأت بعض الدول العربية باتخاذ خطوات فعلية للتقليل من هدر الطعام، من خلال مبادرات حكومية أو مجتمعية. ومن أبرز هذه الجهود:

• المملكة العربية السعودية: أطلقت وزارة البيئة والمياه والزراعة برنامج “نحو صفر هدر غذائي”، بالإضافة إلى مبادرات مثل بنك الطعام “إطعام”.

• الإمارات: أطلقت حملة “نعمة” التي تهدف إلى خفض هدر الطعام بنسبة 50% بحلول عام 2030.

• مصر: تعمل على تحديث نظم الحصاد والنقل وتطوير سلسلة التبريد في قطاع الزراعة.

• المغرب وتونس: برامج توعية مجتمعية لمكافحة التبذير الغذائي في المدارس والأسواق.

التوصيات لمكافحة الهدر الغذائي

للحد من هذه الظاهرة المتفاقمة، هناك حاجة لتكامل الجهود بين الحكومات، والقطاع الخاص، والمؤسسات التعليمية، والمنظمات غير الربحية، ويشمل ذلك:

1. تعزيز الوعي المجتمعي من خلال الحملات الإعلامية والتعليمية.

2. تحديث البنية التحتية الزراعية والتجارية، وخاصة في النقل والتخزين.

3. سنّ قوانين وتشريعات تلزم المطاعم والمؤسسات الغذائية بإدارة النفايات بشكل مسؤول.

4. تشجيع إعادة توزيع الطعام الزائد من خلال بنوك الطعام والمنظمات الخيرية.

5. استخدام التكنولوجيا في إدارة سلاسل الإمداد وتحسين التخطيط الغذائي.

خاتمة

هدر الطعام في الدول العربية ليس مجرد مشكلة سلوكية أو فردية، بل هو ظاهرة معقدة تتداخل فيها العوامل الثقافية والاقتصادية والبيئية. ومع ازدياد التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي والتغير المناخي، تبرز الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات فاعلة ومستدامة للحد من هذه الظاهرة. الاستثمار في التوعية، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز ثقافة المسؤولية الغذائية، تمثل مفاتيح أساسية لمجتمع أكثر استدامة وأماناً غذائياً في المستقبل.

المراجع:

1. منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)

2. البنك الدولي – تقارير التنمية الغذائية

3. World Resources Institute – Food Loss and Waste Protocol

4. مبادرة “إطعام” – السعودية

5. تقرير “نعمة” – الإمارات 2023

6. وزارة الزراعة المصرية – بيانات الحصاد والتوزيع 2022

7. المركز الإقليمي للأغذية المستدامة – بيروت 2021