نيلسون مانديلا: رحلة كفاح من السجن إلى رمز عالمي للحرية

المقدمة

يُعد نيلسون روليهلاهلا مانديلا أحد أبرز الشخصيات التاريخية في القرن العشرين، وأحد رموز النضال ضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. تجسد حياته كفاحًا طويلًا من أجل العدالة والمساواة والحرية، فقد مرّ بتجربة الاعتقال لمدة 27 عامًا، ليصبح بعدها أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا في حقبة ما بعد الفصل العنصري. امتاز مانديلا بالحكمة، والصلابة الأخلاقية، والقدرة على المصالحة، مما جعله شخصية عالمية تحظى بالاحترام والتقدير في جميع أنحاء العالم.

النشأة والتعليم

وُلد نيلسون مانديلا في 18 يوليو 1918 في قرية مفيتزو بمقاطعة الكيب الشرقية في جنوب أفريقيا، ضمن قبيلة التيمبو، أحد فروع شعب الخوسا. والده كان مستشارًا للملك المحلي، وقد توفي عندما كان مانديلا في التاسعة من عمره، فتولت تربيته عائلة ملكية، مما أتاح له فرصة الحصول على تعليم جيد نسبيًا في ذلك الزمان. التحق بجامعة فورت هير، إحدى الجامعات القليلة التي كانت تقبل الطلبة السود، لكنه طُرد منها لمشاركته في احتجاج طلابي ضد إدارة الجامعة.

لاحقًا، انتقل إلى جوهانسبرغ حيث عمل في وظائف متعددة ودرس بالمراسلة للحصول على شهادة في القانون. وفي عام 1943، التحق بجامعة ويتواترسراند لدراسة الحقوق، حيث تعرف على بيئة سياسية متنوعة غذّت وعيه السياسي.

الانخراط في العمل السياسي

بدأت رحلة مانديلا في العمل السياسي بانضمامه إلى “المؤتمر الوطني الأفريقي” (ANC) عام 1944، وهو حزب كان يسعى للدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا. شارك في تأسيس “عصبة الشباب” داخل الحزب، التي كانت تهدف إلى تبني سياسة أكثر نشاطًا في مواجهة نظام الفصل العنصري. كانت هذه العصبة بمثابة جناح راديكالي شاب أعاد الحيوية إلى الحزب وأسهم في تحريك الوعي السياسي بين السود.

في بداية خمسينيات القرن العشرين، برز مانديلا كأحد القادة الشباب في الحركة المناهضة للفصل العنصري، وشارك في حملات العصيان المدني السلمي، مثل حملة التحدي عام 1952، والتي دعت إلى عصيان قوانين التمييز العنصري. ونتيجة لذلك، مُنع من التنقل، وحوكم بتهمة التحريض، لكنه استمر في نشاطه السياسي تحت الرقابة الأمنية المشددة.

التوجه نحو الكفاح المسلح

مع تصاعد القمع من جانب الحكومة، وخاصة بعد مجزرة شاربفيل عام 1960، والتي قُتل فيها أكثر من 60 متظاهرًا سلميًا، توصل مانديلا وزملاؤه إلى أن الكفاح السلمي لم يعد مجديًا. أسس مانديلا الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي تحت اسم “رمح الأمة” (Umkhonto we Sizwe) عام 1961، والذي بدأ في تنفيذ عمليات تخريبية ضد البنية التحتية للنظام العنصري، مع التأكيد على تجنب استهداف المدنيين.

وفي عام 1962، أُلقي القبض عليه وحُكم عليه بالسجن لخمس سنوات. لاحقًا، وخلال محاكمة ريفونيا الشهيرة عام 1964، حُكم عليه بالسجن المؤبد بتهم التخريب والتآمر لقلب نظام الحكم. أثناء المحاكمة، ألقى مانديلا خطابًا شهيرًا قال فيه: “لقد ناضلت ضد هيمنة البيض، وناضلت ضد هيمنة السود. لقد ثمّنت فكرة مجتمع ديمقراطي حر يعيش فيه الجميع في انسجام. إنها فكرة مستعد أن أموت من أجلها”.

سنوات السجن

قضى مانديلا 18 عامًا من سجنه في جزيرة روبن آيلاند، وهي جزيرة نائية كانت مخصصة للسجناء السياسيين، حيث خضع لظروف قاسية من العمل الإجباري والمعاملة العنصرية. ومع ذلك، استغل سنوات السجن في مواصلة تثقيف نفسه، وتعزيز وحدته مع رفاقه في النضال، والحفاظ على الروح المعنوية العالية.

لاحقًا، نُقل إلى سجن بولسمور ثم إلى سجن فيكتور فيرستر، حيث أصبح يُنظر إليه باعتباره رمزًا حيًا للمقاومة ضد الفصل العنصري. ورغم أنه رفض العروض المتكررة للإفراج المشروط مقابل تخليه عن النضال المسلح، فإن التغيرات السياسية العالمية وتنامي الضغوط الداخلية والخارجية على نظام الفصل العنصري أدت إلى إطلاق سراحه أخيرًا في 11 فبراير 1990، بعد 27 عامًا من الاعتقال.

دور مانديلا بعد إطلاق سراحه

بعد الإفراج عنه، لعب مانديلا دورًا حاسمًا في التفاوض لإنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. تولى قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي في مرحلة حساسة من التحول السياسي، حيث دخل في مفاوضات مباشرة مع حكومة الرئيس فريديريك دي كليرك. أفضت هذه المفاوضات إلى إلغاء القوانين العنصرية، وتفكيك النظام السياسي القائم على التمييز، وتحديد موعد لأول انتخابات ديمقراطية شاملة في تاريخ البلاد.

في عام 1993، مُنح مانديلا وجائزة نوبل للسلام مناصفة مع دي كليرك تقديرًا لجهودهما في التوصل إلى تسوية سلمية تنهي عقودًا من النزاع والانقسام. وفي أبريل 1994، جرت الانتخابات الحرة، وفاز المؤتمر الوطني الأفريقي بأغلبية ساحقة، ليتولى مانديلا رئاسة البلاد في 10 مايو 1994، ويصبح أول رئيس أسود في تاريخ جنوب أفريقيا.

رئاسته لجمهورية جنوب أفريقيا

خلال فترة رئاسته التي استمرت حتى عام 1999، ركز مانديلا على إصلاح المؤسسات، وبناء دولة تقوم على مبادئ الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية. أنشأ “لجنة الحقيقة والمصالحة” بقيادة ديزموند توتو، والتي هدفت إلى كشف الجرائم التي ارتُكبت خلال حقبة الفصل العنصري، وتحقيق المصالحة الوطنية عبر اعتراف الجناة بجرائمهم وتسامح الضحايا.

كما أطلق مانديلا إصلاحات تهدف إلى تحسين حياة الفئات المحرومة، فتم توسيع نظام التعليم، والرعاية الصحية، والإسكان، وتحسين البنية التحتية. وعلى الصعيد الدولي، أعاد مانديلا موقع بلاده إلى الساحة العالمية، بعد أن كانت معزولة بسبب سياسات التمييز العنصري. دعم القضايا الإنسانية في مناطق أخرى من العالم، مثل النزاع الفلسطيني، والأزمة في الكونغو، والنضال من أجل الديمقراطية في أماكن عدة.

تقاعده ونشاطه الإنساني

رغم شعبيته الجارفة، قرر مانديلا عدم الترشح لولاية رئاسية ثانية، وسلّم مقاليد الحكم إلى نائبه ثابو مبيكي عام 1999. تفرغ بعد ذلك للعمل الخيري والإنساني، فأسس “مؤسسة نيلسون مانديلا”، والتي ركزت على مكافحة الإيدز، وتشجيع التعليم، وبناء القدرات القيادية بين الشباب. كما شارك في إطلاق حملة “Make Poverty History” ودعم مبادرات مناهضة للفقر والجهل على نطاق عالمي.

كان أيضًا ناشطًا في القضايا الصحية، خاصة بعد فقدانه لابنه بسبب مرض الإيدز، فدعا إلى إنهاء الوصمة المرتبطة بالمرض، وزيادة الوعي حول الوقاية والعلاج.

سنواته الأخيرة والوفاة

مع تقدمه في السن، بدأ مانديلا في الانسحاب من الحياة العامة تدريجيًا. عانى من مشاكل صحية متعددة، خاصة في الجهاز التنفسي نتيجة إصابته السابقة بالسل أثناء فترة سجنه. وفي السنوات الأخيرة، قلّ ظهوره العلني، رغم أنه ظل يحظى باهتمام إعلامي عالمي كبير.

توفي نيلسون مانديلا في 5 ديسمبر 2013 عن عمر ناهز 95 عامًا، بعد مسيرة حافلة بالنضال والتضحيات. خيّم الحزن على جنوب أفريقيا والعالم أجمع، وأُقيمت له مراسم تأبين ضخمة حضرها رؤساء دول وشخصيات بارزة من مختلف أنحاء العالم.

الإرث والتأثير العالمي

يُعد إرث نيلسون مانديلا واحدًا من أكثر الإرثات تأثيرًا في العصر الحديث. فقد أصبح رمزًا عالميًا للنضال من أجل الحرية، ومثالًا يُحتذى في الصبر، والمثابرة، والتسامح، والقدرة على تجاوز الأحقاد من أجل بناء مستقبل أفضل. تم تخليد اسمه في العديد من المؤسسات والمدارس والجوائز، كما أن يوم 18 يوليو، تاريخ ميلاده، تم اعتماده من قبل الأمم المتحدة كيوم دولي لتكريم مساهماته الإنسانية، تحت اسم “يوم نيلسون مانديلا الدولي”.

مانديلا لم يكن فقط زعيمًا سياسيًا، بل كان رمزًا أخلاقيًا ألهم العالم بقيمه النبيلة في التسامح، والعدالة، والمصالحة. لقد أظهر للعالم أن التغيير ممكن حتى في أحلك الظروف، وأن القوة الأخلاقية والإرادة الصلبة يمكن أن تهزم أقسى أنظمة الظلم.

جدول يوضح أبرز المحطات في حياة نيلسون مانديلا

الخاتمة

ترك نيلسون مانديلا بصمة خالدة في سجل الإنسانية، بوصفه أحد أبرز رموز التحرر والعدالة في العصر الحديث. لم يكن فقط مقاتلًا ضد نظام الفصل العنصري، بل كان رائدًا في المصالحة وبناء الأمة، وحاملًا لقيم تجاوزت حدود بلاده إلى العالم أجمع. لم يكن مانديلا مجرد رجل سياسة، بل كان ضميرًا إنسانيًا حيًا يُذكرنا بقوة المبادئ في وجه الطغيان، وبأن السلام والعدالة ليسا فقط أهدافًا، بل أسلوب حياة.

المراجع:

1. Mandela, Nelson. Long Walk to Freedom: The Autobiography of Nelson Mandela. Little, Brown and Company, 1994.

2. Meredith, Martin. Mandela: A Biography. PublicAffairs, 2010.