نية الصدقة وأثرها

نية الصدقة وأثرها في ميزان العمل

تُعد الصدقة من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله، وهي عمل يتجاوز أثره حدود الذات إلى مجتمعات بأكملها. غير أن جوهر الصدقة، الذي يُثقل به الميزان وتُرفع به الدرجات، لا يكمن فقط في قيمة المال المدفوع أو نوع العطاء المقدم، بل يرتكز أساسًا على النية التي تُودَع في قلب المتصدق قبل إخراج الصدقة. فنية الصدقة هي الأصل والأساس، وهي التي تميز بين صدقة يقبلها الله وصدقة تذهب أدراج الرياح.

مفهوم النية في الشريعة الإسلامية

النية في اللغة هي القصد، وفي الاصطلاح تعني العزم القلبي على فعل أمر ما، ابتغاء وجه الله تعالى. وتُعد النية شرطًا أساسًا في قبول الأعمال، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” (رواه البخاري ومسلم). وهذا ينطبق على الصدقة كما ينطبق على غيرها من العبادات والطاعات، بل قد تكون النية في الصدقة أكثر حساسية؛ لأن الصدقة في جوهرها تتعلق بالتعامل مع الناس، والرياء فيها وارد، والتفاخر بها متوقع، لذا فإن الإخلاص فيها هو الفاصل الحقيقي بين العمل المقبول والعمل المردود.

أهمية النية في الصدقة

إن إخلاص النية لله تعالى عند إخراج الصدقة يجعلها عبادة عظيمة، ذات أثر باقٍ في الدنيا والآخرة، ومن غير النية الصادقة، تتحول الصدقة إلى عمل دنيوي، قد يجلب المدح أو السمعة لكنه لا يرفع صاحبه عند الله.

فالنية الصادقة تجعل من صدقة درهمٍ واحدٍ أفضل من صدقة ألف درهم إن كانت الأخرى مصحوبة برياء أو سمعة. وقد بيّن الله في كتابه الكريم أثر الرياء في الأعمال بقوله: “ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس” [البقرة: 264].

إن النية ترفع العمل الصغير إلى درجات العمل الجليل، وقد يكون الشخص غير قادر على إخراج الصدقة المالية، لكنه إذا نوى بصدق أنه لو كان يملك المال لأنفقه في وجوه الخير، كتب الله له الأجر كأنه فعل. لذلك فإن حضور النية والإخلاص في القلب هو لب العبادة في الصدقة.

مراتب النية في الصدقة

تتفاوت درجات النية في الصدقة بحسب مقصد المتصدق ونيته الباطنية. ويمكن تصنيف هذه المراتب إلى ثلاث مستويات رئيسة:

1. النية الدنيا (الرياء أو طلب السمعة)
   
   وهي النية التي يُخرج فيها الشخص صدقته ليُقال عنه كريم أو محسن، أو ليكسب مدح الناس ونظرهم إليه. وهذه النية باطلة لا تُقبل، بل يحبط بها العمل، وقد ورد في الحديث أن أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة رجل تصدق ليُقال جواد، وقد قيل.

2. النية المتوسطة (النية المشتركة)
   
   وهي نية يُقصد بها الأجر من الله، ولكن يتخللها حب الثناء من الناس أو مصلحة دنيوية. وهذه النية تُخشى منها، وقد لا تُقبل عند الله إلا بقدر ما فيها من الإخلاص، وإن كانت لا تُخرج صاحبها من دائرة الإسلام، لكنها قد تنقص من أجره أو تذهب به بالكلية.

3. النية العليا (الإخلاص التام لله)
   
   وهي أن يُخرج العبد صدقته ابتغاء وجه الله وحده، لا يريد منها جزاءً من أحد ولا شكورًا، وهذه هي النية التي تُثمر البركة في المال وتُضاعف الأجور عند الله. قال تعالى: “إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا” [الإنسان: 9].

كيفية تصحيح نية الصدقة

لتكون نية الصدقة خالصة لله تعالى، ينبغي على المسلم أن يُهيّئ قلبه قبل إخراج الصدقة ويستحضر الأمور التالية:

• الإخلاص لله وحده: فلا يُخرج الصدقة طمعًا في مدح أو شهرة أو وجاهة اجتماعية.

• التأمل في فضل الصدقة: فالعلم بفضلها وأثرها في حياة المسلم يُعين على تجديد النية وطلب وجه الله بها.

• استحضار الآخرة: التذكير بيوم الحساب والميزان والصراط يُرغب النفس في أن تكون الصدقة لله، لا للناس.

• الدعاء بتثبيت الإخلاص: إذ أن القلب يتقلب، والإخلاص لا يكون إلا بتوفيق الله، فيستحب الدعاء لله أن يجعل العمل خالصًا لوجهه.

• إخفاء الصدقة إن أمكن: فإن إخفاءها أدعى للإخلاص، وأبعد عن الرياء. قال تعالى: “وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم” [البقرة: 271].

صور من نية الصدقة المحمودة

النية في الصدقة ليست نوعًا واحدًا، بل تتعدد نيات الصدقة بحسب مقصد العبد، وفيما يلي بعض صور النيات الصالحة التي يُستحب للمسلم أن ينويها عند التصدق:

كل هذه النيات تعكس عمق الفقه في نية الصدقة، وتُحول العمل الواحد إلى أعمال متعددة في ميزان الأجر.

أثر النية على مضاعفة الأجر

الله عز وجل جعل الصدقة بابًا من أبواب مضاعفة الحسنات، وقد بينت النصوص أن المضاعفة مرتبطة بنيّة المتصدق، ودرجة إخلاصه. ففي الحديث القدسي: “إن الله كتب الحسنات والسيئات، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن عملها كتبها الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة” (رواه البخاري ومسلم). وقد جاء في بعض الآثار أن من أنفق صدقة خالصة لله تعالى، فإن الله يُربيها له كما يُربي أحدكم فلوه (أي مهر الفرس)، حتى تصير مثل الجبل.

أمثلة من السلف في نية الصدقة

كان الصحابة والتابعون أشد الناس حرصًا على تصحيح النية في كل عمل، وخاصة في الصدقة. فقد روي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه كان يتصدق في ظلمة الليل، ولا يعلم بذلك أحد، حتى بعد وفاته اكتشف الناس أثر تلك الصدقات. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “إن الأعمال بالنيات، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”.

ولذلك كان الصالحون يتحرون نيتهم عند كل صدقة يخرجونها، بل كانوا يخشون أن تُفسد الرياء والسمعة أعمالهم، فيخفونها حتى عن أقرب الناس إليهم.

الصدقة القلبية: نية الصدقة حتى وإن لم يُخرِج المال

النية في الصدقة ليست محصورة في الفعل فقط، بل قد تكون الصدقة في النية المجردة. وهذا ما يُعرف بـ”الصدقة القلبية”. فمن نوى بقلبه أن يتصدق لو كان لديه مال، وصدق في نيته، كتب الله له أجر المتصدق. وقد ورد عن النبي ﷺ في الحديث: “إنما الدنيا لأربعة نفر…”، وذكر منهم رجل لا مال له، لكنه يقول: “لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان”، فقال ﷺ: “فهما في الأجر سواء” (رواه الترمذي).

نية الصدقة في غير المال

النية الصادقة لا تقتصر على الصدقة بالمال، بل تشمل كل عمل يُقصد به الخير، حتى وإن كان ابتسامة، أو كلمة طيبة، أو دعاءً في ظهر الغيب، أو سعيًا في قضاء حاجة مسلم. فكل هذه أعمال تصح فيها نية الصدقة، ويُثاب عليها المسلم.

وقد قال النبي ﷺ: “كل معروف صدقة” (رواه البخاري)، وقال ﷺ أيضًا: “تبسمك في وجه أخيك صدقة”.

أثر نية الصدقة على النفس والمجتمع

نية الصدقة تُزكي النفس، وتربي القلب على حب الخير، وتُخلّص الإنسان من الأنانية وحب الذات. كما أن أثرها المجتمعي يظهر في نشر روح التضامن والتكافل، وتخفيف معاناة المحتاجين، وسد الفجوة بين طبقات المجتمع.

وعندما يُقبل الناس على الصدقة بنية خالصة، تتحول المجتمعات إلى بيئات أكثر استقرارًا وأمانًا ورحمة، وتعم فيها بركة الله، ويُرفع عنها البلاء.

خاتمة

نية الصدقة هي سر قبولها، وهي المعيار الذي يزن به الله الأعمال يوم القيامة. فليحرص كل مسلم على تصحيح نيته، وتجريدها لله وحده، قبل أن يمد يده بالعطاء. فإن الله لا ينظر إلى حجم ما أُعطي، بل إلى القلب الذي أعطى. وإن كانت الأعمال صورًا قائمة، فإن النية روحها التي تُحييها وتُرقّيها في سلم القبول والدرجات.

المراجع:

• صحيح البخاري، كتاب الإيمان.

• تفسير الطبري، سورة البقرة الآية 264.