4 نماذج عمل سيعتمدها العالم بعد جائحة كورونا (COVID-19)

المقدمة

غيّرت جائحة كورونا (COVID-19) وجه العالم بأسره، ليس فقط من ناحية الصحة العامة والنظم الصحية، بل أيضاً من حيث الاقتصاد، وعلاقات العمل، وأساليب الإنتاج، وطبيعة الوظائف. ففي غضون أشهر قليلة، فرضت الجائحة تحولاً جذرياً في نماذج الأعمال التي كانت تسود لعقود، مجبرة الشركات والمؤسسات على التكيّف السريع مع متغيرات غير مسبوقة. وبينما اعتبر البعض هذه التغيرات مؤقتة، أظهرت الوقائع أن بعضها أصبح راسخاً وجزءاً من بنية الأعمال العالمية الحديثة. من العمل عن بُعد إلى الاقتصاد الرقمي، ومن المرونة التشغيلية إلى التركيز على الاستدامة، تتبلور اليوم أربعة نماذج عمل رئيسية يتوقع أن يعتمدها العالم كواقع دائم بعد الجائحة.

أولاً: نموذج العمل عن بُعد والتحول الرقمي الكامل

تسريع رقمنة الأعمال

قبل الجائحة، كانت الرقمنة تسير بوتيرة محدودة في قطاعات معينة، ولكن مع فرض الإغلاقات العامة، أصبح الانتقال إلى العالم الرقمي ضرورة ملحّة. العديد من الشركات والمؤسسات اضطرت إلى رقمنة خدماتها ومنتجاتها بالكامل، ما أدى إلى قفزة في استخدام التقنيات الرقمية مثل الحوسبة السحابية، والتطبيقات التعاونية، ومنصات المؤتمرات الافتراضية. لم يعد الأمر اختياراً بل ضرورة وجودية.

استقرار العمل الهجين كواقع

نموذج “العمل الهجين” الذي يجمع بين التواجد في المكتب والعمل من المنزل، أثبت فعاليته في تحسين الإنتاجية وتقليل التكاليف التشغيلية. شركات كبرى مثل Google وMicrosoft وTwitter تبنّت هذا النموذج كخيار دائم، ما يعكس تحولاً جوهرياً في فلسفة العمل نفسها. كما ساعد هذا النموذج على فتح أسواق جديدة للمهارات، إذ لم يعد الموقع الجغرافي عائقاً في التوظيف.

التأثيرات الإيجابية على البيئة والموارد

أدى العمل عن بُعد إلى تقليل التنقلات اليومية، وبالتالي تقليص الانبعاثات الكربونية والاستهلاك المفرط للوقود. ونتج عن ذلك تأثير بيئي إيجابي واضح شجع العديد من المؤسسات على تبني سياسات بيئية جديدة أكثر استدامة.

ثانياً: نموذج الاقتصاد القائم على المنصات الرقمية

صعود الاقتصاد التشاركي

أعادت الجائحة توجيه الأنظار نحو المنصات التي تقدم خدمات قائمة على مشاركة الموارد، مثل Uber، وAirbnb، وFreelancer، وغيرها من المنصات التشاركية. حيث ازداد الاعتماد على هذه المنصات في ظل القيود المفروضة على الأعمال التقليدية. وقد ساهمت هذه المنصات في توفير فرص عمل بديلة لعدد كبير من الأفراد الذين فقدوا وظائفهم خلال الجائحة.

التجارة الإلكترونية والشراء عبر الإنترنت

تغير سلوك المستهلك بشكل دراماتيكي خلال الجائحة، حيث ارتفعت معدلات الشراء الإلكتروني بشكل غير مسبوق. اضطرت المتاجر الصغيرة والمتوسطة إلى إنشاء حضور رقمي سريع من خلال المتاجر الإلكترونية والمنصات الجاهزة مثل Shopify وAmazon وNoon، مما أعاد رسم خريطة التوزيع التجاري عالمياً.

الانتقال من الملكية إلى الاستخدام

برز نموذج “الاشتراك” كبديل للملكية، سواء في البرمجيات أو في استخدام الخدمات، وهو ما يعرف باقتصاد الاشتراك. فبدلاً من شراء منتجات بشكل نهائي، يميل الأفراد الآن إلى الاشتراك الشهري أو السنوي بالخدمات حسب الحاجة، مما يعزز المرونة ويقلل من التكاليف.

ثالثاً: نموذج الأعمال المرنة والتخطيط الاستراتيجي طويل الأمد

الاعتماد على المرونة كعامل بقاء

علمتنا الجائحة أن الشركات التي لم تكن مرنة في هياكلها الداخلية، أو بطيئة في اتخاذ القرار، كانت الأكثر عرضة للانهيار. أما المؤسسات التي اعتمدت التخطيط الديناميكي، وإعادة توزيع الموارد بسرعة، فتمكنت من النجاة بل والنمو أحياناً. أصبح من الضروري أن تتبنى الشركات نماذج مرنة تسمح لها بالتكيف السريع مع الأزمات المستقبلية.

سيناريوهات الأزمات وخطط التعافي

توسعت المؤسسات في تبني سيناريوهات متعددة لمواجهة الأزمات المحتملة، مثل اضطراب سلاسل الإمداد أو الأزمات الصحية أو الكوارث الطبيعية. ويتم الآن دمج خطط الاستجابة والتعافي ضمن النماذج التشغيلية الأساسية، بدلاً من اعتبارها ملاحق طارئة.

أهمية التنويع في مصادر الدخل

لجأت الشركات إلى تنويع مصادر دخلها للحد من المخاطر المحتملة. فعلى سبيل المثال، الشركات التي كانت تعتمد على قناة مبيعات واحدة اتجهت إلى القنوات الرقمية، كما عملت على تطوير منتجات جديدة تناسب الظروف المستجدة مثل أدوات التعقيم، والخدمات الرقمية، والاستشارات عن بُعد.

رابعاً: نموذج الأعمال المستدامة والمسؤولة اجتماعيًا

التركيز على الاستدامة البيئية

من الدروس المهمة التي أفرزتها الجائحة أن التوازن البيئي ليس رفاهية بل ضرورة. عدد متزايد من الشركات بدأ يتبنى سياسات مسؤولة بيئيًا، كتقليل النفايات، وتحسين استهلاك الموارد، واستخدام مصادر الطاقة المتجددة. المؤسسات التي تتجاهل هذا الاتجاه تفقد تدريجياً ثقة المستهلكين، خاصة في الفئات الشابة التي تولي اهتماماً كبيراً بالقضايا البيئية.

الصحة النفسية والرفاه الوظيفي

أظهرت الأزمة الصحية أهمية كبيرة للرعاية النفسية للموظفين، وخاصةً في فترات العزل والعمل من المنزل. بدأت الشركات بإدماج برامج دعم نفسي، واستحداث سياسات إجازات مرنة، وتوفير موارد الصحة النفسية. أصبح الرفاه الوظيفي جزءاً من مسؤوليات الموارد البشرية وليس مجرد مبادرات جانبية.

المسؤولية الاجتماعية للشركات

تحولت المسؤولية الاجتماعية من نشاط تسويقي إلى جزء لا يتجزأ من هوية الشركة. قدمت العديد من الشركات مبادرات لدعم المجتمعات المتأثرة بالجائحة، سواء عبر التبرعات، أو تقديم الخدمات مجاناً، أو توفير أدوات الوقاية. أصبح المساهمون والمستهلكون يهتمون بدور الشركة في المجتمع بقدر اهتمامهم بجودة المنتج أو الخدمة.

مقارنة بين النماذج الأربعة وتأثيرها المتبادل

الخاتمة

أصبحت نماذج العمل الجديدة التي ظهرت بعد جائحة كورونا واقعاً لا يمكن تجاهله. فالعالم لن يعود إلى ما كان عليه قبل 2020، بل بات يتجه نحو مستقبل يتميز بالتكنولوجيا والمرونة والاستدامة والمسؤولية الاجتماعية. الشركات التي تدرك هذه التحولات وتتكيف معها سريعاً ستتمكن من البقاء والمنافسة في الاقتصاد العالمي الجديد، بينما ستتخلف الأخرى عن الركب. إن ما بدأ كاستجابة مؤقتة لأزمة صحية، تطور ليصبح نمطاً دائماً يعيد تشكيل مستقبل الأعمال في القرن الحادي والعشرين.

المصادر:

• World Economic Forum. (2021). The Future of Jobs Report.

• McKinsey & Company. (2020). The Next Normal: The Recovery Will Be Digital.