نعمة وجود الأم حية

إذا كانت أمك حية تُرزق: تأملات في نعمة لا تُقدّر بثمن

في حياة الإنسان محطات كثيرة يتوقف فيها الزمن، ويغدو كل شيء من حوله ضئيلاً وهامشياً، إلا تلك القيم الأصيلة التي تمنح الوجود معناه، وتمنح الروح سكينة تتجاوز حدود الفهم واللغة. وفي طليعة هذه القيم تأتي الأم، ليست مجرد امرأة أنجبت وربّت، بل كيان ممتد في الأعماق، ووجدان متأصل في تفاصيل الروح والذاكرة. فإذا كانت أمك حية تُرزق، فأنت تملك ما لا يملكه كثيرون: كنزاً من الحنان، وسِترًا من الرحمة، وعالماً من المعاني لا يُقاس بثمن.

يولد الإنسان وتكون أمه أوّل نافذة يتسلل منها الضوء إلى قلبه، أوّل وطن يحتضن ضعفه، أوّل صلاة تهمس باسمه إلى السماء، وأوّل ملامح للسكينة التي تزرع في قلبه الأمان قبل أن يعرف حتى ما تعنيه الكلمة. الأم ليست فقط من تهدهد الطفل، بل هي من تزرع فيه الحياة، وتظل تفعل ذلك حتى وإن اشتعل الرأس شيباً.

حين تكون الأم حاضرة، فإن كل شيء في الحياة يبدو قابلاً للترميم. وحدها تستطيع أن تقرأ في وجهك ما لا تقوله، وتمنحك من الدعاء ما يُبدد عنك خطوب الدنيا. وجود الأم ليس فقط فيزيائياً في الحضور الجسدي، بل هو تجسيد للبركة التي تملأ المكان وتُظل القلب.

الحنان المتدفق: نبع لا ينضب

إذا كانت أمك على قيد الحياة، فاعلم أنك ما زلت تتنفس من نبع الحنان الخالص. فحنان الأم لا يشبه أي حنان آخر، إنه امتداد للرحمة الإلهية على الأرض، وهو الحنان الذي لا تقدر على فهمه كل الكتب ولا تفسيره كل الفلسفات. حنانها لا يحتاج إلى مناسبة، ولا إلى كلمات تبرره، هو ببساطة موجود لأن قلبها خلق لهذا الغرض.

حتى في صمتها، تعبّر الأم عن حبها وحنانها. نظرتها حين تتفقد ملامحك، همستها في الدعاء، يديها وهي تعد طعامك أو ترتب أغطيتك وأنت نائم، كلها تفاصيل صغيرة لكنها تحمل في جوهرها عالماً كاملاً من المشاعر الصادقة.

دعاء الأم: سلاح لا يُقهر

إن من أعظم ما يملكه الإنسان في حياته هو دعاء الأم. لا يوجد دعاء يلامس أبواب السماء كما يفعل دعاء الأم لابنها. إنها لا تنتظر مقابلاً، ولا تسأل لماذا تدعو، هي تدعو لأن ذلك جزء من فطرتها، لأنك أنت قطعتها الممتدة في هذه الحياة، وكل ما يخصك يعنيها أكثر مما يعنيك أنت نفسك.

وكم من أناس نالوا التوفيق والنجاة بسبب دعاء أم، وكم من طريق استقام، وكم من بلاء اندفع، وكم من بركة نزلت على بيوت فقط لأن فيها أُمًا تدعو، تُصلي، تبكي، وتسأل الله أن يحفظ أبناءها ويحقق لهم الخير أينما وُجدوا.

الوجود النفسي: استقرار لا يُعوض

وجود الأم في حياة الإنسان يخلق نوعاً فريداً من الاستقرار النفسي. قد لا يدرك المرء هذا الشعور بوضوح، لكنه يظهر في كل مرة يشعر فيها بالأمان فقط لأنه يعلم أن أمه ما زالت على قيد الحياة، حتى وإن كان بعيداً عنها. الأم تمثل الحبل السري النفسي بين المرء والطمأنينة، فبمجرد أن يُذكر اسمها، تهدأ الروح ويصفو الذهن.

الأم ليست فقط ملاذًا من مشقات الحياة، بل هي مرآة يرى فيها الإنسان نفسه بشكل أجمل، لأنها الوحيدة التي تحبه بلا شروط، وتسامحه بلا حدود، وتنتظر عودته مهما طال الغياب.

العناية والرعاية: لغة لا تحتاج إلى ترجمة

إذا كانت أمك حية، فأنت ما زلت في دائرة العناية الإلهية المجسدة في صورتها. لا شيء يُضاهي وجبة طعام تعدها الأم، ولا لمسة يدها على جبينك، ولا حتى صوتها وهي تُناديك. فالرعاية التي تقدمها الأم ليست مجرد أفعال يومية، بل طقوس مليئة بالحب، تُشعرك أنك مُهم في هذا العالم، وأن لك مكانًا محفوظًا مهما تقلبت بك الحياة.

حتى في كبَرها، تظل الأم تحمل همّك كما لو كنت لا تزال طفلًا صغيرًا، فهي لا ترى فيك سنواتك الكثيرة، بل ترى وجهك حين نطقت أول كلمة، وخطوتك حين مشيت للمرة الأولى، ودمعتك حين بكيت بسبب ألم بسيط. كل هذه المشاهد محفورة في ذاكرتها كأنها حدثت للتو، وحرصها عليك لا ينقص مهما كبرت.

برّ الأم: واجب لا يسقط بالتقادم

من كانت أمه على قيد الحياة، فقد فُتح له باب من أبواب الجنة لا يُدرك كثيرون قيمته إلا بعد أن يُغلق. إن برّ الأم لا يقتصر على كلمات تُقال، بل على سلوكيات يومية تبدأ من الاعتراف بفضلها، وتنتهي بتقديم ما يمكن من راحة وعناية واهتمام.

برّ الأم ليس خيارًا أخلاقيًا فقط، بل هو التزام روحي وديني، دلّت عليه الكتب السماوية، وأجمع عليه العقلاء. والبرّ لا يُقاس بحجم الهدايا أو كثرة الزيارات فقط، بل يُقاس بمدى استشعار فضلها في القلب، وانعكاس هذا الاستشعار على أفعال ملموسة تظهر لها الحب والتقدير.

الأم في أواخر العمر: موسم الحصاد

حين تدخل الأم مرحلة الشيخوخة، لا يعني هذا أنها ضعفت فقط في الجسد، بل إنها دخلت مرحلة تحتاج فيها لمن يمنحها بعضًا مما أعطته طوال حياتها. وهذا الوقت بالذات، هو الفرصة الذهبية لردّ الجميل، ليس لأنك تستطيع أن تردّه حقًا، ولكن لأنك بذلك تقترب من الإنسانية في أبهى صورها.

في شيخوختها، تكثر آلامها، وتبهت ذاكرتها، ويصغر عالمها، لكنها تظل تتشبث بك، وتراك كل حياتها. فمن كانت أمه على قيد الحياة وهو يرى فيها الكِبر والوهن، فليعلم أنه أمام امتحان عظيم لوفائه وأخلاقه، وامتياز نادر لا يستحق أن يُضيع.

الموت الذي لم يحدث بعد: تأملات في نعمة البقاء

كثيرون فقدوا أمهاتهم، ويعيشون على وقع ذكراها، ويتحسرون على لحظة ضيعوها، أو كلمة قالوها في لحظة غضب، أو عناق فات أوانه. أما من كانت أمه على قيد الحياة، فهو يعيش حياة متقدمة على هؤلاء بفرصة لا يجب أن تُهدر.

وجود الأم في حياة الإنسان هو أشبه بنورٍ لا يخفت، حتى وإن طال الزمن، وحتى إن لم يلحظه مباشرة. إنها موجودة لتُذكّرك دومًا أنك ما زلت ابنًا، مهما بلغت من المناصب أو السن، وما زال لك حضن دافئ تلجأ إليه مهما تغيّرت الظروف.

جدول: مظاهر برّ الأم في المراحل العمرية المختلفة

خاتمة

أن تكون أمك حية تُرزق، فهذه هبة لا تُقدّر بكنوز الأرض. إنها الحماية من الغدر، والدعاء من الغيب، والطمأنينة التي لا تصدر إلا من قلبٍ أحبّك بلا شروط. فكل لحظة تقضيها معها، هي استثمار في الرضا، وكل كلمة طيبة تقولها لها، هي لبنة في بناء إنسانيتك، وكل لمسة حنان تُقدّمها، هي بركة تمتد في حياتك من حيث لا تدري.

فهي ليست فقط من أنجبتك، بل من صنعت منك ما أنت عليه، ومنحتك ما لا يملكه سواك.

المراجع:

• القُرآن الكريم – تفسير ابن كثير

• محمد راتب النابلسي، “تأملات في برّ الوالدين”، دار الفكر