هرمون الجوع وتأثيره على الشهية

هرمون يحفّز الأكل رغم الشبع: الغريلين ودوره الخفي في التحكم بالجوع والسلوك الغذائي

يمثل تنظيم الشهية والسيطرة على السلوك الغذائي أحد أعقد الجوانب في علم الغدد الصماء والتغذية العصبية. ففي حين اعتاد العلماء لفترات طويلة على الاعتقاد بأن الإحساس بالشبع كافٍ لوقف تناول الطعام، فقد كشفت الأبحاث الحديثة عن وجود عوامل بيولوجية أعمق وأكثر تعقيداً تفسر استمرار الشخص في تناول الطعام حتى بعد امتلاء المعدة. ومن أبرز هذه العوامل: هرمون يُدعى الغريلين (Ghrelin)، والذي يوصف أحياناً بأنه “هرمون الجوع”، ولكنه يلعب أدواراً متشابكة تتجاوز ذلك الوصف البسيط.

تعريف الغريلين

الغريلين هو ببتيد هرموني يتكوّن من 28 حمضاً أمينياً، ويُفرز بشكل أساسي من خلايا متخصصة في بطانة المعدة (خلايا إندوكراين P/D1)، وكذلك من البنكرياس والدماغ (تحديداً منطقة الوطاء أو الهيبوثالاموس). ويعد من الهرمونات المحفّزة للشهية، حيث يرتبط بمستقبلات في الدماغ تحفّز الإحساس بالجوع وتدفع الجسم إلى البحث عن الطعام، حتى في حالات لا يَظهر فيها نقص فعلي في الطاقة أو السعرات الحرارية.

كيف يعمل الغريلين؟

يرتفع مستوى الغريلين في الدم عندما تكون المعدة فارغة، مما يرسل إشارات إلى الدماغ، وتحديدًا إلى الوطاء، تحث على تناول الطعام. وعندما يتم تناول وجبة طعام، ينخفض تركيز الغريلين تدريجيًا، وهو ما يُفترض أن يساهم في تثبيط الشهية.

غير أن المفارقة تكمن في أن هذا الانخفاض لا يحدث دائمًا بالشكل المتوقع، خاصة عند بعض الأفراد الذين يعانون من اضطرابات في النظام الغذائي مثل السمنة أو اضطرابات الشراهة. بل إن مستويات الغريلين قد تظل مرتفعة حتى بعد تناول الطعام، مما يفسر استمرار الإحساس بالجوع رغم الامتلاء، ويُعد من أبرز أسباب الإفراط في الأكل.

الغريلين والشبع: العلاقة المعقدة

في الحالة الطبيعية، يتم تنظيم الشهية عبر توازن دقيق بين هرمونات الجوع (مثل الغريلين) وهرمونات الشبع (مثل اللبتين والإنسولين وهرمون PYY). لكن في حالات معينة، يحدث خلل في هذا التوازن:

• مقاومة مستقبلات الشبع: قد يصبح الجسم أقل حساسية لهرمونات مثل اللبتين، مما يجعل الدماغ غير قادر على الاستجابة لإشارات الشبع.

• فرط إفراز الغريلين: يُظهر بعض الأفراد معدلات عالية من الغريلين حتى بعد الوجبات، ويُعتقد أن هذا يحدث نتيجة لأسباب وراثية أو بيئية أو سلوكية.

• التغيرات العصبية والسلوكية: يساهم الغريلين في تنشيط مناطق الدماغ المسؤولة عن المكافأة (مثل نظام الدوبامين)، مما يجعل تناول الطعام متعة تتجاوز حدود الحاجة الفيزيولوجية.

العوامل التي تزيد من تأثير الغريلين

1. الحرمان من النوم

تشير دراسات عديدة إلى أن النوم غير الكافي يرفع من مستويات الغريلين، ويقلل من هرمونات الشبع، مما يدفع الشخص لتناول كميات أكبر من الطعام، خصوصًا الأغذية الغنية بالدهون والسكريات.

2. الإجهاد المزمن

يؤثر التوتر النفسي بشكل مباشر على إفراز الغريلين. في حالات الضغط الشديد، يلجأ الجسم إلى رفع مستويات هذا الهرمون في محاولة للتكيف، وهو ما يفسر حالات “الأكل العاطفي” أو “التهام الطعام تحت الضغط”.

3. اتباع أنظمة غذائية صارمة

الحمية القاسية تؤدي إلى انخفاض السعرات الحرارية بشكل مفاجئ، مما يدفع الجسم إلى رفع إفراز الغريلين كردة فعل دفاعية، بهدف استعادة التوازن الطاقي. هذا ما يجعل الكثير من الأشخاص يشعرون برغبة مفرطة في الأكل بعد فترات من الحرمان الغذائي.

4. السمنة

يعتقد البعض أن الأشخاص المصابين بالسمنة لديهم مستويات منخفضة من الغريلين، لكن الدراسات أظهرت أن بعضهم يعاني من خلل في استجابة الدماغ لهذا الهرمون، مما يجعل تأثيره أقوى ويؤدي إلى الإفراط في تناول الطعام رغم الشعور بالشبع.

الغريلين والسلوك الغذائي القهري

أظهرت الأبحاث أن للغريلين دورًا محوريًا في تحفيز السلوك الغذائي القهري. فهو لا يقتصر على تنظيم الجوع فقط، بل يفعّل نظام المكافأة في الدماغ، لا سيما في المناطق التي ترتبط بالإدمان، مثل اللوزة الدماغية والحُصين. هذا ما يجعل الإنسان ينجذب للأطعمة عالية السعرات حتى دون الحاجة الفعلية لها، كما يحدث في حالات الشراهة أو الأكل الليلي أو اضطرابات الأكل النفسية.

مقارنة بين الغريلين وهرمونات الشبع الأخرى

التأثيرات البيوكيميائية المعمقة للغريلين

الغريلين لا يقتصر دوره على تنظيم الشهية فقط، بل يمتد تأثيره ليشمل جوانب متعددة من الوظائف الحيوية:

• تنظيم إفراز هرمون النمو: يحفّز الغريلين الغدة النخامية على إفراز هرمون النمو.

• تنظيم التمثيل الغذائي للدهون: يعزز تخزين الدهون في الجسم ويخفض من معدل حرق الطاقة.

• تحسين الإدراك والذاكرة: الغريلين يتفاعل مع مستقبلات في الحُصين، وهي منطقة الدماغ المرتبطة بالتعلم والذاكرة.

• تحفيز إفراز العصارات الهضمية: مما يعزز عملية الهضم والامتصاص.

التطبيقات السريرية: الغريلين كهدف علاجي

بسبب تأثير الغريلين الكبير على الشهية والسلوك الغذائي، أصبح هدفًا محوريًا للأبحاث في مجال علاج السمنة واضطرابات الأكل. ومن أبرز التوجهات البحثية:

• تطوير مثبطات مستقبلات الغريلين: لتعطيل تأثير الهرمون على الدماغ والجهاز الهضمي.

• تعديل تفعيل الغريلين في الدماغ: باستخدام تقنيات النانو أو أدوية تعدل المسارات العصبية.

• التدخلات الجراحية: مثل جراحات تكميم المعدة، والتي تقلل من عدد الخلايا المنتجة للغريلين في بطانة المعدة، مما يفسر فعالية هذه الجراحات في تقليل الشهية بشكل ملحوظ.

الغريلين وتأثيره في مراحل الحياة

الطفولة:

يلعب الغريلين دورًا مهمًا في تحفيز النمو عبر دعم إفراز هرمون النمو، إلى جانب دوره في تنشيط الشهية في المراحل النمائية.

البلوغ:

يرتفع تأثير الغريلين نتيجة الزيادة في الحاجة للطاقة والنمو، كما يُعتقد أن له دورًا في التوازن الهرموني العام.

الشيخوخة:

ينخفض إنتاج الغريلين نسبيًا مع التقدم في العمر، مما يؤدي إلى انخفاض الشهية وفقدان الوزن عند كبار السن، وهي حالة تُعرف بفقدان الشهية الشيخوخي (Anorexia of Aging).

استراتيجيات طبيعية لتقليل تأثير الغريلين

• الحفاظ على نمط نوم صحي: النوم المنتظم يقلل من إفراز الغريلين ويعزز حساسية الجسم لهرمونات الشبع.

• تناول البروتين في الوجبات: البروتينات تقلل من مستويات الغريلين أكثر من الكربوهيدرات أو الدهون.

• تناول الألياف: الأطعمة الغنية بالألياف مثل الخضروات والبقوليات تبطئ الهضم وتساهم في تثبيط إفراز الغريلين.

• ممارسة النشاط البدني المعتدل: التمارين الهوائية تساعد على توازن الهرمونات المرتبطة بالجوع.

الخاتمة

يُعتبر الغريلين أحد أبرز اللاعبين في تنظيم السلوك الغذائي، ويمثل تحدياً طبياً وسلوكياً في إدارة الشهية والسيطرة على الوزن. فهم هذا الهرمون وآلية تأثيره العميقة على الدماغ والجسم يفتح آفاقاً جديدة لعلاج اضطرابات الأكل والسمنة، كما يسلّط الضوء على الطبيعة البيولوجية المعقدة للغذاء بوصفه ليس مجرد حاجة فسيولوجية، بل نشاط يتداخل فيه الجسم مع العاطفة والعقل والمجتمع.

المراجع:

1. Müller, T. D., et al. (2015). “Ghrelin.” Molecular Metabolism.

2. Cummings, D. E., & Overduin, J. (2007). “Gastrointestinal regulation of food intake.” Journal of Clinical Investigation.