الصناعة في تونس: الواقع، التحديات، والآفاق المستقبلية

تُعد الصناعة في تونس من الركائز الأساسية للاقتصاد الوطني، حيث أسهمت على مدار العقود الماضية في تنويع مصادر الدخل، وتوفير فرص العمل، وتعزيز الصادرات. فقد شهدت البلاد منذ الاستقلال تحولات كبيرة في بنيتها الصناعية، بدءاً من مرحلة التصنيع البدائي المرتبط بالمواد الخام المحلية، مروراً بالتوجه نحو التصنيع الموجه للتصدير، ووصولاً إلى مساعٍ متواصلة نحو إدماج الصناعات التكنولوجية والحديثة.

يستند القطاع الصناعي في تونس إلى منظومة قانونية واقتصادية وتنموية تراعي التوازن بين الحاجة إلى جلب الاستثمارات الخارجية، والحفاظ على النسيج الصناعي المحلي، وتحقيق التنمية الإقليمية. كما يشكل هذا القطاع أحد أهم مصادر التشغيل والاستثمار، وهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بباقي القطاعات الاقتصادية كالفلاحة، والخدمات، والطاقة، والبنية التحتية.

تطور القطاع الصناعي في تونس

بدأت تونس في بناء قاعدتها الصناعية في ستينيات القرن الماضي ضمن استراتيجية شاملة للتنمية، قادها آنذاك الرئيس الحبيب بورقيبة، وكان هدفها تقليل الاعتماد على الاستيراد، وتطوير الصناعات التحويلية، خاصة في مجالات النسيج والصناعات الغذائية. وقد تم تأسيس مؤسسات عمومية صناعية كبرى خلال هذه الفترة، منها ما يعمل في مجال الإسمنت، والمعادن، والصناعات الكيميائية.

في السبعينيات والثمانينيات، تحولت تونس تدريجياً إلى سياسة التصنيع من أجل التصدير، مستفيدة من قربها الجغرافي من أوروبا، وتكلفة اليد العاملة المنخفضة نسبياً، والاتفاقيات التجارية المتعددة، خاصة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الموقّع سنة 1995، والذي أدى إلى إنشاء منطقة تبادل حر بين الطرفين.

شهدت التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة توجهات واضحة نحو الخصخصة وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية الصناعية، وإطلاق برامج إصلاح واسعة لتحسين مناخ الأعمال، وتنويع القاعدة الصناعية، خاصة في مجالات الصناعات الميكانيكية والإلكترونية.

هيكلة الصناعة التونسية

تتكون الصناعة التونسية من عدة قطاعات رئيسية، يمكن تصنيفها إلى صناعات تحويلية، وصناعات استخراجية، وصناعات تكنولوجية. الجدول التالي يوضح أهم القطاعات الصناعية في تونس ومساهمتها في الناتج المحلي والتشغيل:

الصناعات الميكانيكية والكهربائية

تُعد من أبرز القطاعات الصناعية في تونس من حيث القيمة المضافة والتصدير. تشمل هذه الصناعات مكونات السيارات، والأسلاك الكهربائية، والآلات الصناعية، ومكونات الطيران. وقد شهد هذا القطاع نمواً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة بفضل الشراكات مع شركات أوروبية كبرى، مثل “ليوني” الألمانية و”دلفي” الأمريكية، التي أنشأت مصانع لها في تونس تستفيد من الكفاءة التونسية في المجالات التقنية والهندسية.

صناعة النسيج والملابس

تُعد من أقدم وأهم الصناعات في تونس، وتستقطب أكبر عدد من العمال، خاصة النساء. ورغم المنافسة الشديدة من دول آسيا، لا تزال تونس تحتفظ بمكانة متميزة كمورد للملابس الجاهزة للأسواق الأوروبية، بفضل الجودة العالية وسرعة التوريد وقرب الموقع الجغرافي. كما تسعى الصناعة النسيجية اليوم إلى التحول نحو منتوجات ذات قيمة مضافة أعلى، مثل الألبسة التقنية والرياضية.

الصناعات الغذائية

يعتمد هذا القطاع على المنتجات الفلاحية المحلية، خاصة زيت الزيتون، والتمور، والطماطم، والسمك، والحبوب. وقد شهدت صادرات زيت الزيتون التونسي تطوراً كبيراً، حيث تُعد البلاد اليوم من أكبر المصدرين في العالم، خاصة إلى الولايات المتحدة وأوروبا. كما تتجه الصناعات الغذائية نحو تطوير منظومات إنتاج متكاملة وتحسين جودة المنتوجات الموجهة للتصدير.

الصناعات الكيميائية

يتركز هذا القطاع أساساً حول صناعة الفوسفات ومشتقاته، خاصة الأسمدة الكيميائية التي تُعد من أهم صادرات تونس. كما يشمل الصناعات الدوائية والبتروكيميائية، رغم محدودية الموارد الطاقية المحلية. وقد عرفت هذه الصناعات بعض التعثرات نتيجة مشاكل بيئية واجتماعية، خاصة في منطقة قفصة، ما أثر على الإنتاج والتصدير.

الصناعات الصيدلية

تعتبر من القطاعات الواعدة التي بدأت تنمو في تونس خلال العقدين الأخيرين. تشهد البلاد تطوراً ملحوظاً في إنتاج الأدوية الجنيسة (المكافئة) وتعمل شركات محلية وأجنبية على تصنيع أدوية عالية الجودة تغطي جزءاً هاماً من الاستهلاك المحلي، وتُصدر إلى الأسواق الإفريقية والعربية.

التوزيع الجغرافي للصناعة

تتركز الأنشطة الصناعية أساساً في المناطق الساحلية، خاصة في ولايات تونس الكبرى، وصفاقس، وسوسة، والمنستير، وبنزرت. ويُعزى ذلك إلى توفر البنية التحتية، والقرب من الموانئ، وسهولة النفاذ إلى الأسواق. في المقابل، تعاني المناطق الداخلية من ضعف الاستثمار الصناعي وغياب الصناعات الكبرى، ما يكرّس التفاوت التنموي بين الجهات.

وتسعى السياسات العمومية إلى تدارك هذا الخلل من خلال إحداث مناطق صناعية جديدة داخل البلاد، وتقديم حوافز جبائية وتشجيعية للمستثمرين. ومع ذلك، لا تزال نسبة مهمة من الأراضي الصناعية في الداخل غير مستغلة بسبب غياب خدمات النقل والطاقة، ونقص الكفاءات المحلية.

الاستثمارات الصناعية

يشهد القطاع الصناعي التونسي نمواً متواصلاً في الاستثمارات، سواء من قبل المستثمرين المحليين أو الأجانب. وتُعد المناطق الصناعية الموجهة للتصدير من أبرز وجهات هذه الاستثمارات، حيث تستفيد من الامتيازات القانونية والجبائية التي توفرها الدولة.

بلغت الاستثمارات الصناعية خلال السنوات الأخيرة ما يقارب 2.5 مليار دينار سنوياً، منها نسبة تتجاوز 60% موجهة نحو الصناعات التصديرية. كما تحتل الاستثمارات الأجنبية مكانة هامة، خاصة في قطاع الإلكترونيات، وقطع غيار السيارات، والأدوية.

التحديات التي تواجه الصناعة في تونس

رغم ما تحقق من إنجازات في القطاع الصناعي، إلا أن الصناعة التونسية تواجه مجموعة من التحديات البنيوية والظرفية، أبرزها:

• ضعف البنية التحتية: خاصة في المناطق الداخلية، ما يصعب عمليات التوريد والتصدير.

• النقص في الطاقة: حيث تعاني تونس من عجز في تلبية حاجياتها الطاقية، ما يؤثر على كلفة الإنتاج.

• التفاوت الجهوي: في توزيع المشاريع الصناعية، ما يكرّس الفوارق التنموية والاجتماعية.

• المنافسة الدولية: خاصة من المنتجات الآسيوية منخفضة الكلفة.

• صعوبة النفاذ إلى التمويل: بالنسبة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة، والتي تمثل العمود الفقري للقطاع الصناعي.

• البيروقراطية الإدارية: وتعقيدات الإجراءات المتعلقة بالحصول على التراخيص والتعامل مع الهياكل الحكومية.

الآفاق المستقبلية للصناعة التونسية

تسعى تونس إلى إعادة صياغة سياستها الصناعية في أفق 2035، وفق رؤية شاملة ترتكز على:

1. التحول الرقمي للصناعة: من خلال إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد في العمليات الصناعية.

2. تثمين البحث والتطوير: وتشجيع الشراكات بين المؤسسات الصناعية والجامعات ومراكز البحث.

3. التوجه نحو الاقتصاد الأخضر: وتشجيع الصناعات المستدامة والطاقات المتجددة.

4. تحسين مناخ الأعمال: عبر تقليص الإجراءات الإدارية، وتوفير بيئة قانونية مستقرة وجاذبة.

5. تحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي: من خلال إعادة هيكلة منظومة الحوافز، والتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية.

6. تشجيع التصنيع المحلي: وتعويض الواردات من المواد نصف المصنعة والمنتجات الاستهلاكية المصنعة بالخارج.

السياسات الحكومية الداعمة

وضعت الدولة التونسية عدة استراتيجيات لدعم القطاع الصناعي، منها:

• برنامج إعادة تأهيل المؤسسات الصناعية لتحسين إنتاجيتها ومردوديتها.

• إنشاء مناطق صناعية متخصصة في عدة ولايات داخلية.

• تمويل مشاريع البحث والتجديد الصناعي.

• تشجيع الصناعات الصغرى والمتوسطة عبر آليات تمويل ميسرة.

• مراجعة قانون الاستثمار لتبسيط الإجراءات وتحسين الشفافية.

أهمية القطاع الصناعي للاقتصاد الوطني

يلعب القطاع الصناعي دوراً محورياً في الاقتصاد التونسي، حيث يُعد من أكبر مصادر التشغيل، وأهم محركات الصادرات، وأحد ركائز تحقيق النمو المستدام. كما يُسهم في تحسين الميزان التجاري من خلال تعويض الواردات وزيادة الصادرات، إلى جانب دوره في تعزيز القدرات التقنية والبشرية الوطنية.

الخلاصة

يمثل القطاع الصناعي في تونس عنصراً استراتيجياً في مشروع التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. ورغم التحديات المتعددة التي يواجهها، فإنه يظل مجالاً واعداً يمكن أن يسهم بقوة في تحسين مؤشرات الاقتصاد، وتحقيق التنمية الجهوية، ورفع مستوى المعيشة. ويتطلب ذلك إرادة سياسية واضحة، وتعاوناً فعّالاً بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى تحسين مناخ الأعمال، وتوفير بيئة محفزة للاستثمار والابتكار.

المراجع:

1. المعهد الوطني للإحصاء التونسي – تقارير التنمية الاقتصادية والصناعية، 2023

2. وزارة الصناعة والطاقة والمناجم التونسية – تقرير “الرؤية الصناعية 2035”