السرطان وتبعاته العاطفية

يُعدّ مرض السرطان أحد أكثر التحديات الصحية تعقيدًا التي تواجه الإنسان، فهو لا يقتصر فقط على ما يُسببه من تدهور في الحالة الجسدية، بل يمتدّ تأثيره عميقًا إلى الجوانب النفسية والعاطفية للمريض ومن حوله. فعند تشخيص السرطان، تنشأ مجموعة من المشاعر الحادة التي قد تكون بنفس قوة الألم الجسدي أو أشدّ، وقد تؤثر بشكل كبير على مسار العلاج ونوعية الحياة. يتعامل الإنسان في هذه المرحلة مع صدمة وجودية تهزّ كيانه بالكامل، حيث تُفرض عليه مواجهة قاسية مع المجهول، والخوف، والقلق، وأحيانًا الشعور بالذنب أو الغضب. وفي هذا السياق، نسلط الضوء على ستة أسباب تجعل من تشخيص السرطان تجربة عاطفية بامتياز، تتطلب فهمًا معمقًا وتدخلاً نفسيًا متكاملاً.

1. الصدمة النفسية الفورية عند التشخيص

عند سماع المريض لكلمة “سرطان”، تحدث استجابة نفسية صادمة فورية يمكن تشبيهها بردّة فعل الشخص عند مواجهة تهديد وجودي مباشر. يُصاب كثير من المرضى بما يُعرف بـ”شلل الفهم” حيث تتوقف قدرته على استيعاب ما يقوله الطبيب، ويبدأ الدماغ في إفراز كميات كبيرة من الكورتيزول والأدرينالين، ما يُدخل الجسم في حالة طوارئ داخلية. هذه اللحظة، غالبًا ما تُرسخ في ذاكرة المريض، وتُصبح نقطة مفصلية في حياته، يتغير عندها كل شيء.

2. القلق المرتبط بالمجهول والموت

السرطان هو أحد الأمراض التي تُثير رعبًا وجوديًا عميقًا، كونه مرتبطًا بشكل مباشر بفكرة الموت، وفقدان السيطرة، وفقدان الأحباء. هذا القلق ليس سطحيًا أو مؤقتًا، بل قد يتحول إلى اضطراب قلق مزمن يُرافق المريض طوال فترة علاجه، وقد يستمر حتى في حال التعافي. الخوف من الألم، من فقدان الوظيفة، من عدم إكمال دور الأب أو الأم، كلها مشاعر تنهك الجهاز العصبي وتؤثر سلبًا على المناعة النفسية والجسدية.

3. التحولات في الهوية والصورة الذاتية

يؤثر السرطان بشكل كبير على الطريقة التي يرى بها المريض نفسه، خصوصًا عند حدوث تغيرات جسدية ناتجة عن العلاج مثل فقدان الشعر، بتر أحد الأطراف، أو تغيّر شكل الجسم نتيجة العمليات الجراحية. تتضرر صورة الذات بشكل عميق، ما يولد شعورًا بالخجل، أو الانعزال، أو حتى الكره الذاتي. هذه التحولات في الهوية الذاتية تُعد من أبرز التحديات النفسية التي تواجه المرضى، وتؤثر بشكل مباشر على رغبتهم في التفاعل الاجتماعي أو حتى تلقي العلاج.

4. الشعور بالذنب وتأنيب الضمير

يُصاب العديد من المرضى بشعور مؤلم بالذنب، سواء تجاه أنفسهم أو تجاه عائلاتهم. قد يتساءلون عن السبب وراء إصابتهم، ويشعرون كما لو كانوا سببًا في معاناة من حولهم، خصوصًا الأبناء أو الشريك. البعض يظن أن سلوكياته السابقة أو نمط حياته الخاطئ هو السبب، مما يضيف طبقة إضافية من الضغط النفسي تجعل التكيف مع المرض أكثر صعوبة. ويزداد هذا الشعور تأزمًا عندما يتطلب العلاج عزلاً أو اعتمادًا على الآخرين، مما يولّد لدى المريض الإحساس بالعبء.

5. الانفصال الاجتماعي والشعور بالوحدة

يترافق السرطان غالبًا مع العزلة الاجتماعية، ليس فقط نتيجة التغيّرات الجسدية أو الجهد البدني الكبير الذي يتطلبه العلاج، بل بسبب الانفصال العاطفي الذي يحدث بين المريض والمجتمع المحيط. كثيرون لا يعرفون كيف يتعاملون مع شخص مصاب بالسرطان، فينتهون بالابتعاد، أحيانًا بدافع عدم القدرة على التعامل مع الألم. كذلك، يخجل بعض المرضى من التعبير عن مشاعرهم أو مشاركة معاناتهم مع الآخرين، ما يزيد من الشعور بالوحدة والانفصال النفسي.

6. الإرهاق العاطفي المستمر

العلاج من السرطان عملية طويلة وشاقة، تتخللها مراحل من الأمل والإحباط، من التقدم والانتكاس، مما يجعل المريض يعيش في حالة تأرجح عاطفي مستمرة. يُصاب البعض بما يُعرف بـ”الإرهاق العاطفي”، وهو حالة من التبلد النفسي وفقدان القدرة على الفرح أو الحزن نتيجة الإنهاك المتراكم. هذا الإرهاق، إذا لم يُعالج، قد يُسبب الاكتئاب أو حتى رفض العلاج، ويُشكّل عائقًا حقيقيًا أمام فرص التعافي.

الجدول: المقارنة بين التأثيرات الجسدية والعاطفية لتشخيص السرطان

الحاجة إلى دعم نفسي موازٍ للعلاج الطبي

تُظهر الدراسات أن المرضى الذين يتلقون دعماً نفسيًا متكاملًا يتمتعون بقدرة أكبر على مقاومة السرطان والتعامل مع علاجه. الدعم النفسي لا يعني فقط الجلسات مع الأخصائيين، بل يشمل أيضًا تهيئة بيئة اجتماعية داعمة، والتثقيف النفسي للمريض وأسرته حول مراحل التكيف. برامج العلاج النفسي السلوكي المعرفي (CBT) والتأمل، ودعم الأقران (مثل مجموعات الدعم) كلها أدوات فاعلة تساعد على تعزيز القدرة النفسية وتحسين نتائج العلاج.

أثر التشخيص على العائلة والمحيط

تشخيص السرطان لا يصيب المريض وحده، بل يمتد أثره إلى العائلة، خصوصًا الأطفال أو الأزواج. غالبًا ما تتشكل لديهم مشاعر قلق متقدمة، وأحيانًا اكتئاب أو مشكلات سلوكية لدى الأبناء، إذا لم يتم احتواؤها. لذلك، من الضروري تقديم برامج توعية نفسية للأسرة توازي تلك التي تُقدم للمريض، لمساعدتهم في إدارة الصدمة، وتوفير دعم صحي متوازن ومثمر.

توصيات لمنظومة الرعاية الصحية

لتخفيف العبء العاطفي عن المرضى، من الضروري أن تتبنّى المؤسسات الصحية نموذجًا متكاملاً يشمل العلاج الطبي والنفسي معًا، ومن أبرز هذه التوصيات:

• دمج الاستشارات النفسية ضمن مراحل التشخيص والعلاج.

• تدريب الطاقم الطبي على التواصل العاطفي الإنساني مع المرضى.

• إنشاء وحدات دعم نفسي تخصصية داخل مراكز الأورام.

• تفعيل مجموعات الدعم والتوعية المجتمعية.

• تسهيل وصول المرضى إلى خدمات الصحة النفسية دون وصمة اجتماعية.

خاتمة

تشخيص السرطان لا يُمثل فقط بداية رحلة علاجية جسدية، بل هو بداية معركة نفسية مرهقة ومعقدة قد تستمر لسنوات. إدراك البعد العاطفي للمرض، والتعامل معه كجزء لا يتجزأ من خطة العلاج، هو ما يُحدث الفارق الحقيقي في حياة المريض، ليس فقط من حيث احتمالات الشفاء، بل من حيث جودة الحياة خلال المرض وما بعده.

المراجع

1. American Cancer Society. (2023). Emotional and Psychological Effects of Cancer.

2. National Cancer Institute. (2022). Coping with Cancer: Mental Health and Emotional Well-being.

3. Spiegel, D., & Giese-Davis, J. (2003). Depression and cancer: mechanisms and disease progression. Biological Psychiatry.

4. World Health Organization. (2021). Cancer and Mental Health Integration Guidelines.

5. Holland, J. C., Breitbart, W. S., et al. (2015). Psycho-Oncology. Oxford University Press.