موسوعة جينيس للأرقام القياسية: تاريخها، تطورها، وأغرب إنجازاتها عبر الزمن

تُعد موسوعة جينيس للأرقام القياسية واحدة من أكثر المراجع شهرة وانتشارًا في العالم، فهي توثق الإنجازات البشرية الخارقة والطبيعية، وتُعتبر مرجعًا عالميًا معتمدًا في تسجيل الأرقام القياسية على مستوى العالم. ولأن الإنسان بطبيعته يميل إلى التميز وتحقيق الإنجازات، فإن موسوعة جينيس باتت رمزًا للسعي نحو تحطيم الحدود والوصول إلى أقصى درجات الأداء في مختلف المجالات، سواء كانت علمية، رياضية، ثقافية، أو حتى طريفة وغير مألوفة.

النشأة والبداية

تعود بدايات موسوعة جينيس إلى منتصف القرن العشرين وتحديدًا إلى عام 1951، عندما كان السير هيو بيفر، المدير التنفيذي لمصنع جينيس الشهير للبيرة في أيرلندا، في رحلة صيد برية، ودار نقاش بينه وبين رفاقه حول أسرع طائر في أوروبا، مما أثار اهتمامه بإيجاد مرجع موثوق يمكنه توثيق مثل هذه المعلومات بدقة. بعد هذه الحادثة، أدرك بيفر الحاجة إلى موسوعة مرجعية تتضمن الأرقام القياسية والإجابات الدقيقة على الأسئلة التي كثيرًا ما تُطرح في الأحاديث اليومية.

استعان بيفر بشقيقين توأمين متخصصين في البحث وتدقيق المعلومات هما نوريس ومكويرتر، وكُلفا بجمع وتوثيق مجموعة ضخمة من الحقائق والأرقام المثيرة للجدل. وفي عام 1955، تم إصدار أول نسخة من موسوعة جينيس للأرقام القياسية في المملكة المتحدة، وحققت نجاحًا باهرًا منذ اليوم الأول. فقد تم بيع آلاف النسخ خلال الأسابيع الأولى فقط، وأصبحت مرجعًا لا غنى عنه في المكتبات والمنازل ومراكز البحث.

تطور الموسوعة وانتشارها العالمي

مع مرور السنوات، شهدت موسوعة جينيس تطورًا كبيرًا على مستوى المحتوى والشكل والتوزيع. لم تعد تقتصر على الطبعات المطبوعة السنوية فحسب، بل توسعت لتشمل برامج تلفزيونية، فعاليات مباشرة، نسخ إلكترونية، وتطبيقات رقمية تتماشى مع تطورات العصر الرقمي. كما أصبحت تتوفر بلغات متعددة لتصل إلى جمهور عالمي.

أُطلقت الطبعة الأمريكية الأولى في عام 1956، ثم توالت الإصدارات في مختلف دول العالم. وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بدأت موسوعة جينيس تبث برامج تلفزيونية مخصصة لاستعراض الأرقام القياسية، وحققت هذه البرامج نسب مشاهدة ضخمة، مما زاد من شعبية الموسوعة وعزز من مكانتها كمصدر ترفيهي وتعليمي في آنٍ واحد.

اليوم، تُنشر موسوعة جينيس في أكثر من 100 دولة، وتُترجم إلى أكثر من 40 لغة، وتُباع منها ملايين النسخ سنويًا، الأمر الذي يجعلها من أكثر الكتب توزيعًا في العالم بعد الكتب الدينية.

هيكل الموسوعة وتصنيفاتها

تضم موسوعة جينيس أقسامًا متعددة تغطي جميع مجالات الحياة تقريبًا، من الفنون والرياضة إلى العلوم والطبيعة وحتى الظواهر الغريبة. تتضمن التصنيفات الأساسية ما يلي:

• الأرقام القياسية البشرية: مثل أطول رجل أو أقصر امرأة في العالم، أو أكثر عدد من الوشوم على جسم إنسان.

• الإنجازات الرياضية: تتعلق بأسرع عداء، أقوى رافع أثقال، أو أكثر عدد أهداف يُسجلها لاعب خلال موسم معين.

• الابتكارات التقنية: تسجل الإنجازات المرتبطة بأحدث التقنيات مثل أسرع سيارة كهربائية أو أصغر جهاز إلكتروني.

• الظواهر الطبيعية: مثل أكبر شجرة في العالم، أو أعمق كهف مكتشف.

• الإنجازات الجماعية: مثل أكبر عدد من الأشخاص يشاركون في رقصة معينة في نفس الوقت.

• الغرائب والطرائف: مثل أكبر بيتزا تم صنعها، أو أكثر عدد ملاعق وُضعت على الوجه دون أن تسقط.

ويجري تحديث الأرقام القياسية بشكل مستمر، حيث تُرسل طلبات جديدة يوميًا من جميع أنحاء العالم، ويتم فحصها وتقييمها بدقة قبل اعتمادها رسميًا.

معايير القبول والتوثيق

الانضمام إلى موسوعة جينيس ليس بالأمر السهل، بل يتطلب استيفاء شروط صارمة لضمان المصداقية والدقة. من أبرز هذه المعايير:

• التوثيق الكامل: يجب أن يكون الإنجاز موثقًا بالصوت والصورة وبشهادة شهود مستقلين.

• القابلية للقياس والمقارنة: لا تقبل الموسوعة أي إنجاز لا يمكن قياسه بطريقة موضوعية أو تكراره في ظروف مماثلة.

• التفرد: لا يُقبل الإنجاز إذا لم يكن فريدًا أو جديدًا.

• السلامة وعدم الإضرار بالنفس أو الآخرين: ترفض الموسوعة تسجيل أي إنجاز ينطوي على مخاطر كبيرة أو مخالف للأخلاق أو القوانين.

وفي حال تم اعتماد الرقم القياسي، يحصل صاحبه على شهادة رسمية من الموسوعة، ويتم نشر اسمه وصورته في الطبعة التالية.

دور الموسوعة في الثقافة الشعبية

أثّرت موسوعة جينيس بشكل كبير في الثقافة العالمية، حيث أصبحت بمثابة منصة يتسابق فيها الناس لإظهار مهاراتهم الفريدة أو غرابتهم الخارقة. وظهر ذلك جليًا في برامج الواقع والمسابقات التي استوحت فكرتها من التحديات التي تتضمنها الموسوعة، وكذلك في الأنشطة المدرسية والمجتمعية التي تسعى لتحطيم أرقام قياسية محلية.

كما ساهمت في تحفيز الأفراد على الابتكار وتطوير الذات، إذ يرى الكثيرون أن تسجيل رقم قياسي شخصي يُعد دافعًا قويًا نحو التميز وتحقيق الذات. وقد شجعت بعض الحكومات والمنظمات الشباب على محاولة تسجيل أرقام قياسية لتحفيز الإبداع لدى الأجيال الجديدة.

أبرز الأرقام القياسية المسجلة في الموسوعة

تتضمن موسوعة جينيس آلاف الأرقام القياسية، من بينها ما هو طريف، غريب، مدهش، أو مثير للإعجاب. ومن بين أبرز هذه الأرقام:

• أطول رجل في العالم: التركي سلطان كوسين، بطول يبلغ 2.51 مترًا.

• أسرع عداء: الجامايكي يوسين بولت، الذي قطع مسافة 100 متر في 9.58 ثانية.

• أكثر عدد من المكالمات الهاتفية في دقيقة واحدة: سجلتها امرأة من الهند بـ 120 مكالمة خلال 60 ثانية.

• أكبر بيتزا في العالم: تم تحضيرها في إيطاليا عام 2012، بقطر بلغ أكثر من 1261 مترًا مربعًا.

• أطول أظافر في العالم: سُجلت باسم الأمريكية لي ريدموند، وقد بلغ طول أظافرها أكثر من 8.65 مترًا في المجموع.

• أكبر تجمع لرسم على الجسد (Body Paint): شارك فيه أكثر من 1200 شخص في ألمانيا.

دور الموسوعة في التوثيق العلمي والثقافي

على الرغم من شهرة موسوعة جينيس في المجالات الطريفة والترفيهية، فإنها أيضًا تلعب دورًا مهمًا في التوثيق العلمي والثقافي، إذ تحتفظ بسجلات دقيقة لإنجازات مذهلة في مجالات مثل:

• الطب: أطول عملية جراحية، أو أكثر عملية زراعة أعضاء تمت بنجاح.

• الفضاء: أول إنسان يصل إلى نقطة معينة في الفضاء، أو أكثر رحلة فضائية تدوم زمنًا.

• التعليم: أكبر درس جماعي في الرياضيات أو العلوم، أو أكثر عدد من الطلاب الذين شاركوا في تجربة علمية موحدة.

هذا الجانب التوثيقي يجعل من الموسوعة مصدرًا مهمًا للباحثين والطلاب والمؤرخين على حد سواء.

الجانب التجاري والإعلامي للموسوعة

تُعد موسوعة جينيس مشروعًا تجاريًا ضخمًا أيضًا، فهي تُدار من قبل شركة عالمية مقرها في لندن، وتحقق أرباحًا من عدة مصادر مثل:

• بيع الكتب السنوية.

• البرامج التلفزيونية.

• تراخيص الاستخدام والعلامة التجارية.

• الفعاليات العالمية التي تُنظم بالتعاون مع حكومات وشركات.

وقد ساعدت هذه الاستراتيجية التجارية على بقاء الموسوعة في صدارة المشهد الثقافي والإعلامي لعقود متتالية.

جدول: مقارنة بين بعض الأرقام القياسية المثيرة

الأثر النفسي والاجتماعي لموسوعة جينيس

تحمل موسوعة جينيس أبعادًا نفسية واجتماعية عميقة، إذ تُعتبر بالنسبة لكثيرين وسيلة لإثبات الذات والتغلب على التحديات. فالرغبة في تسجيل رقم قياسي عالمي تُحفّز الإصرار والمثابرة، وتشجع الأفراد على تجاوز الحدود التقليدية وتحقيق المستحيل.

كما تلعب دورًا اجتماعيًا في تعزيز روح الفريق، خصوصًا في الأرقام الجماعية التي تتطلب تعاون عدد كبير من الأفراد. هذا النوع من التحديات يخلق تجارب فريدة تُسهم في بناء المجتمعات وتعزيز الانتماء المشترك.

الخاتمة

تمثل موسوعة جينيس للأرقام القياسية أكثر من مجرد كتاب يُسجل الأرقام المدهشة، بل هي توثيق حضاري لمسيرة الإنسان نحو التفوق في شتى المجالات. من خلال جمعها لهذه الإنجازات، تبرز الموسوعة القدرات الإنسانية الفريدة، وتُحفز الطموح الفردي والجماعي، كما تسهم في توثيق مظاهر متنوعة من التقدم العلمي والاجتماعي والثقافي في مختلف أنحاء العالم.

المراجع:

1. Guinness World Records. Official Website. https://www.guinnessworldrecords.com

2. McWhirter, Norris. Guinness Book of World Records, Editions 1955–1980.