فوائد سورة الملك العظيمة

فوائد سورة الملك

سورة الملك، وهي السورة السابعة والستون في ترتيب المصحف الشريف، تعد من السور المكية التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل الهجرة. تتألف من ثلاثين آية، وتبدأ بقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾، ومن هنا جاء اسمها “الملك”، أي التملك والتصرف المطلق في الكون. تدور محاورها حول توحيد الله عز وجل، وبيان قدرته في الخلق، وإنذار الكافرين بعاقبة كفرهم، والتحذير من الغفلة عن الآخرة، كما تتضمن إشارات علمية دقيقة تدل على عظمة الخالق في الكون.

لقد أجمعت كتب التفسير والحديث على عظمة هذه السورة، وفضائلها المتعددة التي تنعكس على حياة المؤمن في الدنيا، وتستمر إلى ما بعد موته، مما جعلها من السور التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على قراءتها والمداومة عليها. وفي هذا المقال، سيتم تناول فوائد سورة الملك بتفصيل علمي وشرعي ومنهجي، مدعوماً بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، إضافة إلى تحليل موضوعي لأبعاد السورة الروحية والإيمانية والوجودية.

1. الحماية من عذاب القبر

من أبرز الفضائل التي وردت في الأحاديث الصحيحة بشأن سورة الملك أنها تشفع لقارئها وتنجيه من عذاب القبر. فقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي والحاكم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قوله:

“من قرأ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة، منعه الله بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نُسميها المانعة، وإنها في كتاب الله سورة من ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غُفر له”.

هذا الحديث يبيّن أهمية المداومة على قراءتها، خصوصًا قبل النوم، لما لها من تأثير روحي يحصّن المسلم من الابتلاء في أولى مراحل الآخرة، وهي القبر. إنها بمثابة وقاية يومية، تُنير الظلمة، وتدفع العذاب، وتشفع لقارئها حتى يُغفر له.

2. تعزيز التوحيد واليقين بالله

تبدأ السورة بإثبات صفة الملك المطلق لله، وتشير إلى قدرته في الخلق والموت والحياة، مما يغرس في النفس الإيمان العميق بتوحيد الربوبية والألوهية. فقول الله تعالى:

﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾

يدل على أن وجود الإنسان ليس عبثًا، وإنما اختبار رباني، وأن الله وحده من يحيي ويميت ويملك كل شيء. إن هذا الإقرار العقائدي من شأنه أن يقوّي إيمان المسلم، ويجدد يقينه في تدبير الله وعدله، ويجعله أكثر خشية وورعًا في كل تصرفاته.

3. تعميق الإيمان بقدرة الله في الخلق

من أبرز المواضيع التي تكررت في سورة الملك هو الحديث عن خلق الله المتقن للسماء، وعن انتظام الكون وعدم وجود خلل فيه:

﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ﴾

هذه الآية تحفّز العقل على التفكر في الكون، وترسخ في القلب الإيمان بعظمة الله، وتدعو المسلم إلى التأمل في النظام الدقيق للكون، مما يدفعه إلى الإحسان في العبادة والتواضع أمام الخالق العظيم. إن الاستمرار في قراءة هذه الآيات يفتح آفاقًا عقلية وروحية لا متناهية.

4. زرع الرقابة الذاتية في النفس

سورة الملك تذكّر الإنسان بأن الله مطلع على أفعاله وسامع لأقواله، بل يعلم ما في قلبه. قال تعالى:

﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾

هذه الرقابة الإلهية تغرس في قلب المؤمن الخشية الحقيقية من الله، وتجعل الضمير حيًّا، فلا يكون في السر مختلفًا عن العلن. وهكذا تساهم السورة في إصلاح السلوك الإنساني من الداخل إلى الخارج، وتطهر النفس من دواخل الرياء والنفاق وسوء النية.

5. إدراك عاقبة الكافرين

تتحدث السورة بشكل مفصّل عن مصير المكذبين يوم القيامة، وتصور مشهد جهنم بشكل يجعل القارئ يشعر برهبة وخوف يدفعه إلى التقوى والطاعة:

﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ﴾

﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾

هذا الوصف القوي لعذاب الآخرة ليس هدفه التخويف المجرد، وإنما تحفيز القارئ على الإقلاع عن الذنوب والعودة إلى طريق الاستقامة. فذكر المصير المحتوم للكافرين يعدّ من أهم الدوافع للتوبة والعمل الصالح.

6. الحث على التفكر والتدبر

تكرر في السورة الدعوة إلى التفكر في آيات الله، مثل خلق الطير، والسماء، والماء، والنبات، وكلها إشارات إلى عظمة الله في الكون:

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَـٰنُ﴾

السورة تربط بين الإيمان الحقيقي والتفكر العقلي، مما يجعلها مساهمة فعّالة في بناء شخصية متدبرة، توازن بين الإيمان العقائدي والتأمل العقلي، وتبتعد عن السطحية في المعتقدات.

7. التذكير بالرزق والتوكل على الله

تشير السورة إلى أن الأرزاق كلها بيد الله، وأن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن رحمة الله في أي لحظة:

﴿أَمَّنْ هَـٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾

هذه الآية ترسّخ مفهوم التوكل على الله وحده، وتنفي عن النفس الغرور والاعتماد على الأسباب وحدها، وتجعل المسلم أكثر قربًا إلى ربه بالدعاء والاستغفار، وأكثر إيمانًا بأن الرزق مقدر ومقسوم.

8. بيان ضعف الإنسان أمام قوى الطبيعة

سورة الملك تستعرض عجز الإنسان أمام كوارث الطبيعة مثل الزلازل أو الأمطار الشديدة:

﴿أَمْ أَمِنْتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾

﴿فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾

هذا يُشعر القارئ بحاجته المستمرة إلى الاستغفار والتوبة، وأنه مهما بلغ من العلم والتقدم، فهو ضعيف أمام قدرة الله وجنده في السماء والأرض.

9. تنمية الروح الوقائية من الغفلة

الحديث عن عذاب القبر، وقدرة الله، ومآل الكافرين، كلها عناصر تهدف إلى إيقاظ القلوب الغافلة، وتحذيرها من التسويف والتهاون في الطاعات. سورة الملك تعمل كوسيلة وقائية يومية، تمنح النفس مناعة إيمانية ضد الانزلاق في الغفلة أو الإعراض.

10. ارتباط السورة بالنجاة يوم القيامة

يقول العلماء إن السورة تشمل ثلاثين آية، وهي بعدد أيام الشهر، وكأنها دورة وقائية شهرية إن داوم المسلم على قراءتها، نجا من العذاب وأُحصي من الذاكرين، وهذا يبرز فقه التكرار والتثبيت في الإسلام.

جدول: مقارنة بين الفوائد الروحية والسلوكية لسورة الملك

خاتمة

سورة الملك ليست مجرد كلمات تُتلى، بل هي منهج متكامل للتربية الروحية والعقلية والأخلاقية. فيها من الهداية، والشفاعة، والتنبيه، والإنذار، ما يجعلها جديرة بأن تكون رفيقة المؤمن في ليله ونهاره. إن المداومة على قراءتها ليست فقط التزامًا بسنة نبوية، بل هي استثمار حقيقي في النجاة الأبدية. تُحيي القلب، وتُنير القبر، وتفتح أبواب الجنة.

المصادر:

1. صحيح الترمذي – كتاب فضائل القرآن – حديث عبد الله بن مسعود.

2. تفسير ابن كثير، دار طيبة للنشر.