أسماء الملوك الفينيقيين: دراسة تاريخية معمّقة في تسلسل الحكم وسياقه الحضاري

مقدمة

امتدت الحضارة الفينيقية على السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وازدهرت مدنها المستقلة مثل صور، صيدا، جبيل، وأرواد، منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد وحتى القرون الأولى بعد الميلاد. شكّلت هذه المدن كيانات سياسية متميزة، لكنها اشتركت في الكثير من الصفات الثقافية والاجتماعية والدينية، وكانت محكومة من قبل أنظمة ملكية وراثية، لعب فيها الملوك دوراً محورياً في إدارة الشؤون الداخلية والخارجية، وتنظيم التجارة البحرية، ورعاية الطقوس الدينية.

لم تكن الممالك الفينيقية موحدة تحت سلطة مركزية واحدة، بل نشأت كمدن-دول مستقلة لكل منها أسرتها الملكية الخاصة، وهو ما أدى إلى تعدد في أسماء الملوك وتنوع في فترات حكمهم. وقد أُخذت معظم المعلومات عن هؤلاء الملوك من النقوش الأثرية، والسجلات الآشورية والبابلية، وأحياناً من المؤرخين الإغريق والرومان.

النظام الملكي الفينيقي

تميز النظام الملكي الفينيقي بالوراثة، لكنه لم يكن مطلق السلطة؛ إذ كان الملك يخضع لموازين قوى داخلية تشمل الكهنة والنبلاء، كما أن بعض المدن مثل جبيل عرفت أشكالاً مبكرة من الاستشارة الجماعية أو المجلس السياسي. كانت شرعية الملك ترتبط غالباً بعلاقته مع الآلهة، خاصة الإله بعل أو ملكارت في صور، الأمر الذي كان يمنحه سلطة دينية تُعزز من نفوذه السياسي.

ملوك مدينة جبيل (بيبلوس)

مدينة جبيل (Byblos) من أقدم المدن الفينيقية، وكانت مركزاً دينياً وتجارياً نشطاً، خاصة في فترة العلاقات الوثيقة مع مصر الفرعونية، حيث ظهرت أسماء ملوكها على الألواح والنقوش التي وُجدت في المعابد أو المقابر الملكية.

أبرز الملوك:

• أحيرام (Ahiram): من أشهر ملوك جبيل، ويعود له التابوت المزخرف الشهير الذي يحتوي على أقدم كتابة فينيقية معروفة. يُعتقد أنه حكم في القرن العاشر قبل الميلاد.

• إتبعل الأول (Ittoba‘l I): من ملوك جبيل الذين ذُكروا في النقوش المصرية، وكان على علاقة وثيقة بفرعون مصر.

• ييحيملك (Yehimilk): ورد اسمه في النقوش التي تؤرخ لبناء المعابد أو ترميمها، ويُعد من أوائل الملوك المعروفين تاريخياً.

• عبدشتارت (Abdastart): ورد اسمه في عدد من الوثائق الأثرية، وكان له دور في تنظيم النشاط الديني داخل المدينة.

ملوك مدينة صور

كانت مدينة صور أكثر الممالك الفينيقية قوة ونفوذاً، خاصة في الفترة الممتدة من القرن العاشر إلى السابع قبل الميلاد. حكمها ملوك بارزون ساهموا في التوسع البحري وتأسيس المستعمرات، وأشهرها قرطاج.

أبرز الملوك:

• إحيروم الأول (Ahiram I): يعود إلى القرون الأولى من تاريخ صور، ويُعتقد أنه لعب دوراً في ترسيخ الحكم الوراثي.

• إتبعل الأول (Ithobaal I): كان كاهناً كبيراً في معبد عشتروت قبل أن يصبح ملكاً، وهو والد الملكة إيزابل التي تزوجت من الملك آحاب في مملكة إسرائيل، حسب ما ورد في العهد القديم.

• بعل عزار (Baal-Eser I): استمر حكمه ما يقارب الثلاثين عاماً، وذُكر في السجلات الآشورية.

• متىن (Mattan I): والد بيغماليون، وارتبط اسمه في الروايات بتدهور الأوضاع السياسية في صور.

• بيغماليون (Pygmalion): أحد أشهر الملوك، لأنه كان السبب في هروب أخته ديدو (أليسار) مؤسسة قرطاج. حكم بين 831 و785 ق.م، وفق التأريخ المتوافق بين المؤرخين القدامى.

• إلولى (Elulaios): حكم في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، وواجه الحملات الآشورية بقيادة شلمنصر الخامس وسنحاريب.

ملوك صيدا

صيدا، التي كانت تُعرف قديماً بـ”صيدون”، تميّزت بازدهارها التجاري والثقافي، لكنها ظلت خاضعة للنفوذ الأجنبي في فترات متعددة. مع ذلك، برز فيها عدد من الملوك الذين حاولوا الاستقلال أو حافظوا على نوع من الحكم الذاتي.

أبرز الملوك:

• أبدملقرت (Abdmilkot): ورد اسمه في النقوش الأثرية، وقد يكون أحد الملوك الذين حكموا أثناء الهيمنة الآشورية.

• أشمنعاز الأول (Eshmunazar I): ملك بارز أسس سلالة صيدونية لعبت دوراً مهماً في الحياة الدينية والسياسية للمدينة.

• أشمنعاز الثاني (Eshmunazar II): دفن في تابوت ملكي يحمل نقوشاً مهمة، وتُعد من أقدم النصوص الفينيقية التي تتحدث عن الحقوق الملكية والدينية.

• تابنيت (Tabnit): والد أشمنعاز الثاني، وقد وُجد تابوته في صيدا يحمل نقوشاً مزدوجة (فينيقية ومصرية)، مما يدل على التبادل الثقافي الواسع.

ملوك أرواد

مدينة أرواد، الواقعة على جزيرة قبالة الساحل السوري، كانت مركزاً بحرياً وعسكرياً بارزاً، وتميّزت بقوة أسطولها البحري. على الرغم من قلة الوثائق الأثرية عنها مقارنة بصور وصيدا، إلا أن بعض أسماء ملوكها وردت في السجلات الآشورية.

أبرز الملوك:

• يكنعمو (Yakin‘ammu): حُكم عليه بالخضوع للملك الآشوري تغلت فلاسر الثالث، ويُعد من أوائل الملوك المعروفين للمدينة.

• أبدإيلو (Abdi-ilu): ورد اسمه في نقش يعود لعهد سرجون الثاني، وكان ضمن تحالف مدن الساحل الفينيقي ضد الهيمنة الآشورية.

• أبدو ملكو (Abd-Milk): شارك في بعض الحملات الدفاعية ضد النفوذ الفارسي لاحقاً، ويُعتقد أن حكمه كان في أواخر القرن السادس قبل الميلاد.

جدول يلخّص أبرز ملوك المدن الفينيقية

أهمية الوثائق الأثرية في تحديد أسماء الملوك

اعتمد الباحثون على عدة مصادر لاستخلاص أسماء الملوك الفينيقيين، من أهمها:

1. النقوش الحجرية والمعدنية: التي وُجدت على المعابد، القبور، والتماثيل، وتُعد مصدراً مباشراً وذو مصداقية تاريخية.

2. السجلات الأشورية والبابلية: التي كانت تسجّل أسماء الملوك المحليين التابعين أو المعادين للإمبراطورية.

3. الروايات الكلاسيكية: مثل كتابات هيرودوت، ويوسيفوس، والتي رغم أنها لاحقة للفترة الفينيقية إلا أنها تحتوي على سرديات تاريخية مهمة.

الصراعات والتحالفات السياسية

شهدت الممالك الفينيقية فترات من التحالف والصراع فيما بينها، كما دخلت في مواجهات مستمرة مع القوى العظمى في محيطها مثل مصر، آشور، بابل، وفارس. وكان الملوك الفينيقيون يضطرون أحياناً إلى إعلان ولائهم للقوى الكبرى مقابل الحفاظ على نوع من الاستقلال الذاتي. وقد أدى هذا إلى تقلب الولاءات وظهور ملوك موالين لأعداء مدنهم أحياناً، مما أثر على استقرار الحكم.

النفوذ الثقافي والديني للملوك

لم يكن الملوك الفينيقيون مجرد قادة سياسيين، بل كان لهم دور ديني رئيسي، فالكثير منهم تولوا مناصب كهنوتية، أو أمروا ببناء المعابد، وتنظيم الطقوس الكبرى. وكانت مكانة الملك في المجتمع الفينيقي مقدسة نسبياً، ومتصلة بمفهوم “البركة الإلهية”، وهو ما يُفسر النقوش التي تحذر من نبش القبور الملكية أو التعدي على ممتلكاتهم.

ختام

تشكل دراسة أسماء الملوك الفينيقيين مدخلاً ضرورياً لفهم بنية الحكم والسياسة في هذه الحضارة التي أثرت في حوض البحر المتوسط بأكمله. وعلى الرغم من أن الفينيقيين لم يتركوا سجلاً تاريخياً مكتوباً بشكل موسع، كما فعل المصريون أو البابليون، إلا أن النقوش الأثرية والمصادر الأجنبية وفّرت مادة غنية يمكن من خلالها إعادة بناء تسلسل الحكم وتحديد أدوار ملوك المدن المختلفة. تبقى هذه الدراسة مجالاً مفتوحاً للبحث والاكتشاف، مع إمكانية العثور على مزيد من الأسماء والنقوش في المستقبل عبر التنقيبات الأثرية المتواصلة.

المراجع:

1. Moscati, Sabatino. The Phoenicians. I.B. Tauris, 2001.

2. Markoe, Glenn E. Phoenicians. University of California Press, 2000.